بســـــــــم الله الرحمــــــن الرحيـــــم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
ومـن سيئـات أعمـالنـا مـن يهـده الله فـلا مضل له ومن يضلل فلا هـادي لـه
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسولـه
أما بعد ...
● أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
سورة البقرة
▪ قوله تعالى : ( الطلاق مرتان ) ج18
رواية أيوب المذكورة هي التي أخرجها أبو داود وهي المطابق لفظها حديث عائشة الذي جزم فيه ابن القيم ، بأنه لا يدل إلا على أن الطلقات المذكورة ليست بفم واحد ، بل واقعة مرة بعد مرة وهي واضحة جدا فيما ذكرنا ، ويؤيده أيضا أن البيهقي نقل عن ابن عباس ما يدل على أنها إن كانت بألفاظ متتابعة فهي واحدة ، وإن كانت بلفظ واحد فهي ثلاث ، وهو صريح في محل النزاع ، مبين أن الثلاث التي تكون واحدة هي المسرودة بألفاظ متعددة ; لأنها تأكيد للصيغة الأولى .
ففي " السنن الكبرى " للبيهقي ما نصه : قال الشيخ : ويشبه أن يكون أراد إذا طلقها ثلاثا تترى ، روى جابر بن يزيد عن الشعبي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في رجل طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها ، قال عقدة كانت بيده أرسلها جميعا . وإذا كانت تترى فليس بشيء . قال سفيان الثوري تترى يعني أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق . فإنها تبين بالأولى ، والثنتان ليستا بشيء ، وروي عن عكرمة عن ابن عباس ما دل على ذلك ، انتهى منه بلفظه . فهذه أدلة واضحة على أن الثلاث في حديث طاوس ليست بلفظ واحد ، بل مسرودة بألفاظ متفرقة كما جزم به الإمام النسائي - رحمه الله - وصححه النووي ، والقرطبي ، وابن سريج ، وأبو يحيى الساجي ، وذكره البيهقي عن الشعبي ، عن ابن عباس ، وعن عكرمة عن ابن عباس ، وتؤيده رواية أيوب التي صححها ابن القيم كما ذكره البيهقي وأوضحناه آنفا مع أنه لا يوجد دليل يعين كون الثلاث المذكورة في حديث طاوس المذكور بلفظ واحد ، لا من وضع اللغة ، ولا من العرف ، ولا من الشرع ، ولا من العقل ; لأن روايات حديث طاوس ليس في شيء منها التصريح بأن الثلاث المذكورة واقعة بلفظ واحد ، ومجرد لفظ الثلاث ، أو طلاق الثلاث ، أو الطلاق الثلاث ، لا يدل على أنها بلفظ واحد لصدق كل تلك العبارات على الثلاث الواقعة بألفاظ متفرقة كما رأيت ، ونحن لا نفرق في هذا بين البر والفاجر ، ولا بين زمن وزمن ، وإنما نفرق بين من نوى التأكيد ، ومن نوى التأسيس ، والفرق بينهما لا يمكن إنكاره ، ونقول : الذي يظهر أن ما فعله عمر إنما هو لما علم من كثرة قصد التأسيس في زمنه ، بعد أن كان في الزمن الذي قبله قصد التأكيد هو الأغلب كما قدمنا ، وتغيير معنى اللفظ لتغير قصد اللافظين به لا إشكال فيه ، فقوة هذا الوجه واتجاهه وجريانه على اللغة ، مع عدم إشكال فيه كما ترى . وبالجملة بلفظ رواية أيوب التي أخرجها أبو داود .
وقال ابن القيم : إنها بأصح إسناد مطابق للفظ حديث عائشة الثابت في " الصحيحين " ، الذي فيه التصريح من النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها لا تحل للأول حتى يذوق عسيلتها الثاني كما ذاقها الأول . وبه تعرف أن جعل الثلاث في حديث عائشة متفرقة في أوقات متباينة ، وجعلها في حديث طاوس بلفظ واحد تفريق لا وجه له مع اتحاد لفظ المتن في رواية أبي داود ، ومع أن القائلين برد الثلاث المجتمعة إلى واحدة لا يجدون فرقا في المعنى بين رواية أيوب وغيرها من روايات حديث طاوس .
ونحن نقول للقائلين برد الثلاث إلى واحدة إما أن يكون معنى الثلاث في حديث عائشة ، وحديث طاوس أنها مجتمعة أو مفرقة ، فإن كانت مجتمعة فحديث عائشة متفق عليه فهو أولى بالتقديم ، وفيه التصريح بأن تلك الثلاث تحرمها ولا تحل إلا بعد زوج ، وإن كانت متفرقة فلا حجة لكم أصلا في حديث طاوس على محل النزاع ; لأن النزاع في خصوص الثلاث بلفظ واحد . أما جعلكم الثلاث في حديث عائشة مفرقة ، وفي حديث طاوس مجتمعة فلا وجه له ولا دليل عليه ، ولا سيما أن بعض رواياته مطابق لفظه للفظ حديث عائشة ، وأنتم لا ترون فرقا بين معاني ألفاظ رواياته من جهة كون الثلاث مجتمعة لا متفرقة .
وأما على كون معنى حديث طاوس أن الثلاث التي كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ، هي المجموعة بلفظ واحد فإنه على هذا يتعين النسخ كما جزم به أبو داود رحمه الله ، وجزم به ابن حجر في " فتح الباري " ، وهو قول الشافعي كما قدمنا عنه ، وقال به غير واحد من العلماء.
وقد رأيت النصوص الدالة على النسخ التي تفيد أن المراد بجعل الثلاث واحدة ، أنه في الزمن الذي كان لا فرق فيه بين واحدة وثلاث ، ولو متفرقة ; لجواز الرجعة ولو بعد مائة تطليقة ، متفرقة كانت أو لا . وأن المراد بمن كان يفعله في زمن أبي بكر هو من لم يبلغه النسخ ، وفي زمن عمر اشتهر النسخ بين الجميع . وادعاء أن مثل هذا لا يصح يرده بإيضاح وقوع مثله في نكاح المتعة ، فإنا قد قدمنا أن مسلما روى عن جابر أنها كانت تفعل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وفي بعض من زمن عمر قال : فنهانا عنها عمر . وهذه الصورة هي التي وقعت في جعل الثلاث واحدة ، والنسخ ثابت في كل واحدة منهما ، فادعاء إمكان إحداهما واستحالة الأخرى في غاية السقوط كما ترى ; لأن كل واحدة منهما ، روى فيها مسلم في " صحيحه " عن صحابي جليل ، أن مسألة تتعلق بالفروج كانت تفعل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبي بكر ، وصدرا من إمارة عمر ، ثم غير حكمها عمر ، والنسخ ثابت في كل واحدة منهما . وأما غير هذين الأمرين فلا ينبغي أن يقال ; لأن نسبة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - وخلق من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أنهم تركوا ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، وجاءوا بما يخالفه من تلقاء أنفسهم عمدا غير لائق ، ومعلوم أنه باطل بلا شك.
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن