« العائلة هي كل شيء»
إنه لَمثيرٌ للسخريةِ ألا نُخير حيال أيّ شيء ساعةَ ولادتنا . كمسقط رأسنا على سبيل المثال، من ذا الذي كان سيختارُ الجزائر لو أتيحتْ له فرصة إختيار مكان ولادته ؟ ثم و كأنه لم يكن كافيا ، سينتقون - جميعهم- إسما نيابةً عنك و يتناقشون معناه في كل مجالس الأفراح مثل قضيةٍ وطنيةٍ حتّى تجد نفسك تحمل لعنة إسمٍ لم تكن لتختاره لو كنتَ أنت . و مع ذلك ، تقبلتُ كلّ التفاهات السابقة حتّى كوني أحمل ، على الرغم مني ، عبء حذق و عناد برج الثور إلاّ أنّني لم أتقبل بأيةٍ صورةٍ كانت ، تحمل مسؤولة إنتمائي إلى عائلةٍ أقل ما يقال عنها ، مجنونة.
لعلّ ليو تولستوي يشاطرني الرأي سرّا حين يصرح :« إنها العائلة!» ثم يضيف لمن لم تكفه مرارة تينك الكلمتين : « إما أن تصنع إنسانا أو كومة عقد» و على الأغلب ، بتُ أنتمي إلى الفئة الثانية.
حتّى في الموت ، يتدخلُ أشخاص آخرون للسيطرة على آخر رغباتك . تصور نفسك لوهلةٍ أنّك في غيبوبةٍ مطولة أودت بك إلى موتٍ سريريٍّ أيْ أن كافة وظائفك الدماغية توقفت عن العملِ و لن يكون بوسعها العودة إلى الحياةِ ثانيةً . و على الرغم من ذلك ، سيأتي أحدهم متوسلاً الطبيب كيْلا يفصلك عن الأجهزة التنفسية ، تاركًا إياك معلقا ما بين الحياة و الموت .
ليس حبًا عائليّا و لا خوفًا أخويًّا بل أنانيةً إنسانيةً إذ أنّ روحك-إبتداء من صرختك الأولى -صارت ورثةً إجتماعيةً يتقاسمها أفراد عائلتك و بذلك تتيح لكلّ واحدٍ منهم ، حق التدخل الكليّ في شؤونك .
و مع أنني وددتُ مرارًا لو إنتهت المسألة بوفاةٍ دماغيةٍ إلاّ أننّي فقدتني عضوا تلك الآخر ، شغفا يليه فرحًا إلى أنْ تصلبتِ كل الأمنيات و كلّ الإبتسامات ككتلة دموية متخثرة محدثةٍ على إثرِ إنسدادها جلطات عاطفية و نفسيّة .
حينما ينعدم شغفك تجاه كل هواياتك السابقة ، تكون بذلك قد وقعتَ على أوراق فصلك عن حياتك الحالية دون أن يتم تسديدك راتبك من الآسى و لا حتّى تقديمك تعويضات بحقِ كل الدموع المذروفة. ذلك أنّ الشغف هو المحرك الوحيد للديناميكية الحيوية و عطلٌ واحد لا غير قد يودي بك إلى منحدرٍ صخريّ لن تنقذك منه لا القفز بالمظلة و لا طوق نجاة يطفو فوق سطح الماء.
لمَ أخبرك بكل هذا ، أليس كذلك ؟
لأنني ممن فقدوا القدرة على لعق الحياة كَمثلجاتٍ بذوقِ الفراولة. لأنني ممن مُسخوا إلى شبح فأحوم حول تعاستي و أحتضنها مثل قطعة مني ، لربما كانت كذلك بالفعل . لأنني لم أعد أشتهي أي وجبة غذائية بعدما كنتُ ، سابقا ، أنفق كل مدخراتي المالية في الأكل . لأنني لم أعد أتفحص كتابا إلاّ ألقيتُ به عرض الحائط و لا شاهدتُ مسلسلا إلاّ تأففت بضجر بعد ربع ساعة . لأننّي ممن أصبحوا يعتبرون رنين المنبه كعدوٍ و يحصون الأيام المتبقية قبل ..
قبل ماذا يا تُرى؟
فكلّ الكوارثِ قد وقعت بالفعل و لم يعد هناك من رزنامة تشي بسعادةٍ قادمةٍ محتملةٍ.
لم أكن أعي قبل الآن أنَّ للجينات هذه الميزة الخارقة لقلب دنياك رأسا على عقب فبالإضافة إلى الأمراض الوراثية التي قد تنقلها إلينا ، إكتشفتُ مؤخرا بأن بوسعها حتّى نقل التعاسة على أكثر من جيل .
لطالما حسدتُ أولئك الذين يعثرون على الأمان حول مائدة العائلة إذ أنني لم أجد فيها شيئًا سوى صمتًا مطبقًا و أطباقًا من الشتائم و اللعنات. كثيرًا ما تساءلتُ عن ذلك البيت الشعري : « إن من لا أخا له كساعٍ إلى الهيجاء بدون سلاح» غيرَ أنني مقتنعةٌ تمامًا بأن من 'يمتلكُ' أخًا هو المتجه إلى الحربِ بدون سلاح و لا مؤونة ! يا تُرى ، كم من صخرٍ علينا إستنساخه لكي نشعر قليلا بمروءة و رجولة إخواننا كما شعرت بها الخنساء ؟ هي التي كانت تردد « يذكرني طلوع الشمس صخرًا» ، ليس بوسعي إلا أن أنافسها في القول : « يذكرني وقعَ القنابل أخًا لي ». في أحيان كثيرةٍ ، تمنيتُ لو أنّ أمي روضٌ يُورق ما إن رُويَ كما تكهن الشاعر المصري حافظ إبراهيم فعلى الرغم من كل المياه التي سقيتُها بها ، لم تستطع إلاّ أن تذبل على مرأى من تأملي فذبلتُ معها أيضا ..
أحيانًا أخرى ، أحببتُ فكرةَ أن يكون أبي شخصًا مغايرًا . أن يبقى على نفس الصورة الجسديةِ و الإجتماعيةِ مع إعادة تشكيل شخصيته من الأول إلى الآخر . الأمر أشبه بتغيير « ديكور » المنزل من طلاءٍ و أثاثٍ دون الحاجة إلى الإنتقال فعلى الرغم من كل مشاعر الحب التي أكنها له ، لا أتصورني و أنا أكتبه سيرةً روائية كما فعلتْ أحلام مستغانمي لأنني ببساطةٍ لا أريدُ أن « أُصبح هو من بعده».
الحياةُ تسخر مني من خلال الأدبِ ، تحولني إلى بهلوان بأنف أحمر و زيّ فضفاضٍ أصفر . الحياةُ هكذا ، من بين كل جموع البطلات ، تشيرُ إلى فاطمة من « كبرتُ و نسيتُ أن أنسى» لتخبرني بأنها توأمي/نسختي الحبرية. مثلها كنتُ عجوز مجففة في الخامسة و العشرين من عمري ، مثقوبةُ الحواس تمامًا كجُبنة غرويير . مثلها متُّ كثيرًا و دفنتُ نفسي مرارًا غير أنني لم أكنْ متمرنة على الإختباء و الهرب كما تفعل هي دائمًا . لذَا طويلاً ما تخيلتُ محادثةٍ وديةٍ معها ، لا يهم إلكترونية كانت أم شخصيّا ، أسألها من أين لها تلك الشجاعة للمضيّ دونما إكتراث تاركةً وراءها مجرد إعتذارٍ سخيفٍ على ورقة صفراءٍ. هي وحدها تفهمُ «جوعي إلى إرادتي الخاصة» و أن « أريد أن أريد» لأنه سبق و أن كتبتْ نفس الشيء و كأنّها تكتبني . سأسألها أيضًا عن قدرتها العجيبة على الغياب و التظاهر بالصمم على طاولة الطعام و كأن للسمعِ مواعيدَ خاصة ، يحضر و يغيبُ بمنتهى البساطة ثم سأجالسها برهة من الزمنِ لنضحك معًا على ركلها باب العيادة الخاصة لأعودَ معترفةً بأنّني بدوري لم أفلح قط بزيارتي لطبيب نفساني رغمَ تهديدَ عقلي بالجنون إنْ لم أفعل . أنا أيضا كفاطمةَ ، أشتهي أنْ يصفعني أحدهم صفعةً مدويةً لأتأكدَ من أنني رقعة مشوهة/ موزة منقطة كما كان ليخبرها صقر ، أخوها الكبير أمّا أنا فكنتُ محبوبةٌ ، محبوبةٌ إلى حدٍ الغثيان .
أحسدها هي لأنها زجاجٌ غير مرئيٌّ ، فتاتٌ منسيٌّ على العشبِ ، البطةُ السوداءُ القبيحة . أحسدها لأنّ لا أحدًا يتوقعُ منها الإبتسامَ في ذروةِ بكائِها ، لأنَّ لاَ أحدًا يطالبها بأن تكون الفتاة « العمود» للعائلةِ و لا أن تكونَ أنيقةً في حركاتِها و ذكيّةً في شهاداتها . أحسدها في يُتمِ الأشياءِ بداخلِها و في سكونِ الأصواتِ خارجها ، لم تكنْ تمتلكُ دورًا سوى أن تعيش و تكتب و تعيشَ مجددًا أمّا أنا فكنتُ كومةً من الخرابِ ، سلةَ خروداتٍ مختلطةٍ تُباع في السوقِ بثمنٍ بخسٍ . هكذا أنا ، تراكم أشياءٌ كثيرةٌ دون معنى : أنا جهازُ الموسيقى حينمَا تكتئبُ أمي و كتابٌ على الرفِ حينمَا يسودُ الصمت . أحيانًا ، أتحولُ إلى مسرحيةٍ و أحيانًا أخرى إلى فيلمٍ دراميّ و بين هذا و ذاك ، أكونُ قطعة إسفنجٍ تغسلُ دهونَ الخِلاف و الصراعِ. هل كانت فاطمةُ لتحتملَ عبء أن تصيرَ قطعةَ سكرٍ بداخلٍ كوبٍ من الأسى الحارقِ المرِ أو أن تضحَى وسادةً تحتضنُ شخيرَ كل الأثقال الإنسانيّة بجوفها يا تُرى ؟
أنا فعلت.
أيّ جنونٌ هذا أن تشعرَ بالغيرةِ من شخصيةٍ روائيةٍ ، فقط ، لأنها حظت بنهايةٍ جيدةٍ ؟ هنالك قولٌ لباولو كويليو ما فتئتُ أرددُه :« إذا كنتَ أهدأ مما يجب..لم تعد حيّا» و على الأغلبِ بتُ أكثرَ هدوءًا من نوتةِ بيانو .
الجسدُ هنا ،
الروح هناك ،
كاتم الصوتِ هو العائلة
و الرصاصة على الأرضية.
لا نهاية جيدة
لقد فازتْ فاطمة.@