السلام عليكم ورحمة الله تعالى
كنت قد استقرّيت على رأي بشأن أفلام العام الماضي, وهو أنها كانت سنةً فقيرة من حيث
الأعمال التي ستبقى راسخة بالأذهان, وها أنا ذا أُفاجأ بفيلم آخر يصدر فيها ويكاد يصل
للكمال من ناحية الموضوع الذي تطرّق إليه, هو بلا شك من أفضل أفلام 2015, وفقط
من شاهدوه سيعرفون عمّا أتحدّث عنه هنا
اسم الفيلم : Macbeth
سنة الصدور : 2015
المخرج : جوستين كورزيل
النوع : دراما, حرب
بطولة : مايكل فاسبندر, ماريون كوتيار, جاك ماديغان, سيان هاريس
فيلم ترجع جذوره إلى عمل أدبي هو آخر ما كنت أتوقّع أن أشعر برغبة في مشاهدته, هذا لأن مخرجي هكذا أفلام يواجهون مُعضلة تُعرف ب"السهل الممتنع", لا يستطيعون معالجة
العمل الأدبي بصدق, فيتّجهون للتفكير بكيفية صنع العمل الذي يحقق أدنى درجة من النقد من عشاق المادة التي ينقلونها, فيخرج فيلمهم للنور ينقصه إيمانهم بما يفعلون, وإبداعهم, و
زاوية رؤيتهم للمادة, وفيلمنا هذا الذي سأتحدّث عنه ليس قديماً, بل هو واحد من أفلام العام 2015, و مادته الأدبية ليست بالشيء البسيط, فصاحبها هو شيكسبير, صانع مسرحيات
عظيمة, والمسرحية التي أقصدها تُعرف بماكبيث, وقد مُثّلت مراراً, وأُنتجت للسينما والأوبرا الخ, وهذا لكونها أحد أعمال الأدب الدرامية الخالدة بعموم التاريخ الأدبي والفني, هذه
المسرحية عبارة عن مأساة شهيرة كتبها شيكسبير بين عامي 1603 و 1606, وهي من أقصر مسرحياته لكنها ذات عمق في قصتها, عُمق جعل المُخرج أكيرا كوروساوا يخرج
منها عرشه الدامي المعروف بThrone Of Blood 1957 , وبمعرفتي لذلك فقد قررت مشاهدة فيلمه قريباً, لكن صدور هذا الفيلم الجديد الذي يعيد إحياء تلك التراجيديا من
هوليوود جعلني أفكّر وأتردد بشأن من أتابعه من بينهما حتى استقر رأيي على مشاهدة الفيلم الهوليوودي قبل مشاهدة الملحمة الكوروساوية
وهناك دافع آخر, إحدى المراجعات التي مررت عليها والتي تحدّثت عن الفيلم بطريقة راقية جعلتني أتشجّع أكثر على متابعته, لذلك قررت جعله يحظى بفرصة مني, و صرتُ
شاكراً لأنني منحتها له
القصة
ماكبث (مايكل فاسبندر) نبيل "غلاميس” وأحد أشجع المحاربين والذي أنقذ مملكة اسكتلندا من خطرٍ محدق، يقابل ثلاث ساحراتٍ يتنبأن له بملكٍ عظيم، ويتركنه مع خيالاته
عن نبوءاتهن، لتصبح الخيالات هاجساً يجعله لا يطيق صبراً على انتظار تحقق النبوءة طالما يستطيع تحقيقها بيديه التي تأخذ بها يدي زوجته الطموحة (ماريون كوتيار)
السيناريو
مسرحية ماكبث للشاعر والكاتب المسرحي وليام شيكسبير هي من المؤلفات القليلة التي تطرقت لأعماق النفس البشرية و مكنوناتها, فقد جسّدت لنا صفات راسخة في
الإنسان كالطموح والرغبة بالسلطة, الثقة الزائدة والخيانة, والخوف والندم بين سطورها, ولقد اختار كُتّاب النصوص "جاكوب كوسكوف” "تود لويزو” و”مايكل ليسلي”
النظر إلى خالدة شيكسبير بعيون سينمائية, فكتبوا عنها نصّاً قد حوى تسلسلاً سلساً ومُناسباً, سلسٌ بحيث يسهّل عمل مخرج الفيلم جاستن كيرزل, ومُناسبٌ من ناحية ثقتهم
الكاملة بأن كيرزل سيخرج نصه بوفاءٍ وحب شديدين خلف كاميرته, كما و دوّنوا كلماتهم بروح شيكسبيرية مكّنت الصورة من كسر حاجزها الزمني والبلاغي بينها وبين
متلقيها, لأنني شعرت بالمهابة التي تبثّها كلماتهم المختارة بعناية طوال الفيلم, حوارات مُذهلة تخرج من أفواه الشخصيات, لدرجة أنّ كلماتهم تصبح حية مُكمّلة الصورة التي
جهد كيرزل لإخراجها, وهذه من المرّات القلائل التي يجعلني فيها نصّ كُتّابٍ ما أنبهر من عبقرية الألفاظ التي اختاروها, والكلمات الجميلة التي تحوّلت لصورة ناطقة بما أرادوا
لنا أن نسمعه ونراه
الإخراج
اسم جاستن كيرزل يجب أن يخلد في عالم السينما, لأنه استطاع الإتيان بأجواء مهيبة في هذا الفيلم, صوره شكّلت ملحمة شبيهةً بما كان يدور في خلد شيكسبير نفسه عندما قرّر تأليف
تحفة سوداوية كهذه, وكأن المُخرج قد قرّر السير على خطاه والعزم على تقديم عُصارة إمكانياته الإخراجية أثناء عمله على الفيلم, رأيت لوحاتٍ من كيرزل تستحق كل واحدة منها أن
تُحفظ على حدة, حُبّه وإيمانه بما يفعل قد انعكس من خلال هذا الفيلم فرسم صُوراً لحقبةٍ من الصراعات الدامية وخلّدها لتكون عبرة، فكل تفصيل مهما كان صغيراً يقع على نفس المُشاهد
إلّا وسيهزّها، ولن يدعها تهدأ طرفة عين ، وتكفي ملامح المُمثّلين لإيصال الفكرة,ذلك التفصيل الذي يهمله الكثير ممن يحاولون نقل الأعمال الأدبية العظيمة أو يسيئون استخدامه, أمّا
مُخرجنا فقد أثبت للجميع وبما لا يدع مجالاً للشك أنه قادر على جعل ذاك العنصر جزءاً أساسياً من قوة صوره ومهابتها, وبهذا لا تشعر وأنت تسمع الحوار الشكسبيري وكأنّك داخل
مسرح، بل يقوم بإثراء التجربة السينمائية ويزيد مصداقيتها وشاعريتها، لأن المُخرج هنا حوّل مسرحيّةَ إلى ملحمة قابلة للمشاهدة على الشاشة الفضية
انتابني شعور بأن ما قد أقرأه في مسرحية شيكسبير الأصلية هو نفسه ما منحنا كيرزل إياه هنا, الطموح وأهواء السلطة وكل صفات النفس البشرية حيّة هنا, مُتّقدة, والشخصيات وراء
قوتها بشكل واضح, وما ذلك إلّا بسبب حُسن توجيه جاستين كورزيل لهم. تابعت في هذا الفيلم كيف يصل الإنسان إلى علياء السماء ويحقق أحلامه ثم يفقد كل شيء وتنقلب عليه الدنيا
آخذةً إيّاه للهاوية, وأستشهد عليه بكلام خرج من فاه ماكبث نفسه حين قال بعد موت زوجته
"
ما الحياة إلّا تمثيل, يقضي الممثل دوره في المسرح ساطعاً نجمه ثم يحين أُفوله"

واللقطات بالعرض البطيء في بداية الفيلم كانت من أروع بنات أفكار كيرزل صراحة, شعرت بأن سيوفاً حقيقية تتلاحم بين الطرفين وبتبادلهم لنوايا القتل بينهم بكل جدية
التمثيل
قد لا يكون "مايكل فاسبندر” ممثّلا مرغوباً برؤيته لدى الكثيرين, وذلك بسبب قلة الأعمال التي يظهر بها وقلّة أن نراه بطل قصة ما, لكن في هذا الفيلم الذي يلعب بطولته قام
الرجل بعمل جبّار وقدّم أداءاً عظيماً يجعله طوال مشاهد ظهوره بطل الفيلم ويستأثر بأفضل مَشاهده أيضاً, لم أتوقّع أن يمنح كل ما في جعبته هنا, لكنه فاق التوقعات وفعلها, و
شخصيا أتمنى لو أنه رُشّح للأوسكار, لكونه قد أرعبني بجنونه وهوسه. لقد أبرز لنا شخصية ماكبث كأسطورة من الصعب أن تُنسى . أداء ماريون كوتيار الرائع يُضاف لمسيرتها
كعلامة فخر ووسام شرف مُقارنة بالأداءات النسائية, تميّزت وتألّقت تماماً بهذا الفيلم ومنحتنا مهابة بظهورها وأداءها العملاق بجانب فاسبندر, هنا لا أنسى أيضاً الأداءات الرائعة
من كل من بادي كونسيدين, سيان هاريس وباقي طاقم التمثيل
التصوير, الموسيقى, ثم خاتمة
تصوير "آدم أركابو” يدلّ على احترافيته البالغة, ذلك السحر الذي يُسكر البصر من كاميرته, تلك الزاوية التي يأخذ منها لقطاته, البساطة تكون أحياناً عبقرية إن كان صاحبها بارعاً
وصادقاً فيما يُقدّمه على الشاشة, أما بالنسبة للموسيقى فلا أعرف من أين أبدأ, فقدرتها على السيطرة على أحاسيسي ومشاعري جعلتني متسمرا أتابع الفيلم لمدة ساعتين دون
توقف تقريباً, تمكّنت بفضلها من أن أعيش التجربة كما لو أنها ملحمة تقع أمام ناظريّ


صحيح أن ما ناله هذا الفيلم من تكريمات هو أقل مما كان يستحق, فكونه قد رُشح لـ10 جوائز وأهمها السعفة الذهبية في مهرجان كان ليس كافيا, أعجب من عدم ترشّحه لأيّ
أوسكار, هل تجاهل نقاد الأكاديمية كل إنجازات فريق العمل بهذا الفيلم ؟ أم كانوا عاجزين عن رؤيتها ؟, ما العين التي نظروا بها لتحفة جاستن كيرزل؟ الظلم قد اجتاح هذا الفيلم
بنظري, من سيشاهد هذه التحفة فلا شكّ أنه سيُأسر بجمالها, بعبقرية مخرجها, بحبّ كُتّاب نصّها, بفضل هذا الفيلم صرتُ في غِنىً عن قراءة عمل شيكسبير أو البحث عنه, لأن
هذا الفيلم قام بتجسيد كلّ محطّة منه, إنّها ملحمة بما تحمله الكلمة من زخمٍ
التقييم الظالم من imdb للفيلم سبب آخر في تجاهل الإبداع الذي قدّمه كورزيل بالفيلم
تقييمي الشخصي
9/10