"Roses Street" – البناء 22 |

|
وقفت قرب النافذة وأفكاري حائرة في هذه اللحظات العابرة من كتاب حياتي أتأمل هذه المدينة وأفكر في الآتي! انقضى يوم عصيب، كل ما فيها غريب، مبانيها شاهقة، نسائمها خانقة، أصغيت كأنما من خطواتهم اهتزّت الأرض، بشرٌ يسيرون ولا يكلم بعضهم بعض، ومراكز تجارية مبهرة على مد النظر، من جمال بنيانها في الاكساء والحجر، وطرقات انتظمت فيها حركة المسار، ولافتات مضاءة حتى في وضح النهار، كل شيء يجذبك كمغناطيس، من مواضع المتعة الرخيص والنفيس، تصطادك فتعلق كالسمكة في نواصيها، وترميك إن لم تحسن التعايش فيها، بتوليفة من سحر لياليها وأضوائها الوضّاحة، وسهولة إشباع الرغبات بالوسائل المتاحة.
|

|
حزمت حقيبتي الصغيرة .. تركت الفندق .. ومشيت في شوارع لا متناهية، كل في فيها غريب مثلي أنا تماماً أبحث عن صديقٍ سرقه الطموح فغاب في غياهب الأقدار المرسومة، وترك قلباً تعتصره لوعة الأمومة
نظرت إلى العنوان من جديد : "شارع الورود - بناء رقم 22"، كنت أفكر هل سألقاه، ربما قد غيّر مسكنه؟ عموماً سأسأل عنه فلا بد من أن أصل إليه بعدما قطعت كل هذه المسافات.
|

|
مرت تلك الحافلة الحمراء ذات الطابقين من أمامي كالوميض، وعبرت في ثوانٍ، فعبرت معها في بالي لقطات سريعة ومتعاقبة من الذكريات الخوالي، هناك في ذلك البيت الصغير، حيث لم تهدأ يوماً وهي تسألني عن وحيدها "ناجي"، حفر الحزن في قلبها خندقاً وألقى بداخله الخوف والملامة، وألهبت الدموع خدّيها فأحرقت فيهما كل ابتسامة، مضت خمسة أعوامٍ على التوالي ولم تلقَ اتصالاً أو سؤالاً منه.
صمتت وأنين أنفاسها المتعاقبة كأزيز باب مثقل في مهب ريح شتوية، وعيناها الغائرتان من كثرة الدموع تفضح أشواقها المضنية، ثم فجّرت قولها : لماذا تركتُه يرحل؟ قد كان بإمكانه العمل هنا وبمقدورنا التعايش والتأقلم مع ضيق الحال والظروف، أتبعتها بشهقة وبكاء ثم مدّت يدها واعتصرت ساعدي وقالت لي بحرقة : آه لو تعلم مدى حسرتي على تركه يغادر، من يرحم قلب أمٍ اكتوت بنار الحيرة فزاد مر ويلها؟ والأفكار تعصف بنهارها وليلها ومخاوف تروّعها وعواطف تقض مضجعها، وأجهشت بالبكاء كأنما فقدت كل أمل ورجاء.
|

|
ومضات من الذاكرة مملوءة بالحنين عاودت خيالي فعدت معها بذاكرتي لتاريخ أسبق 29 نيسان/إبريل قبل سبع سنوات تقريباً، حين وعدني بأنه سيكون له شأن عظيم قبل أن يبحر في طريقه لتحقيق طموحاته التي لم يكن يحدّها سقف سوى خط الأفق، وعن أي طموحات كنّا نتكلم؟ شباب حالم بالمستقبل يرغب دوماً في ما يجهل!! لماذا يغدو السفر إلى المجهول طموحاً لأحلامنا وكأنه انعدمت الفرص من أمامنا؟ وكأن العمر إن لم نغترب سيغدو قاتلاً لغاياتنا، وإن لم نعش حياتنا بعيداً فسوف لن نعيش حياتنا؟؟ كنا نستسيغ الأيام القادمة بطعم الفراق ونكهة الانعتاق وجمال الحياة وحرية الإنسان، بعيداً عن هذه الأوطان، كانت هذه أحلامنا آنذاك هو سافر بعد إصرار كبير، وأنا بقيت لم يحالفني الحظ والتدبير. |

|
في اتصال لاحق لوصوله زوّدني بعنوانه وطلب مني إرسال طرد بريدي يحتوي بعض مدخراته وأشياء خاصة لم يتمكن من أخذها آنذاك، وأغراض شخصية متنوعة ومبلغ مالي كسلفة، حينها راودني شعور بأنه لن يعود وأدركت أنه ينوي الاستقرار الدائم.
بقينا على اتصال وكان دوماً يعدني أنه حين تنتظم أموره سيرسل لي مبلغ السلفة وسيُحضر والدته للعيش معه أيضاً، ومع انقضاء ما يقارب السنتين انقطع عن الاتصال.
حاولت التواصل معه لكنّه ربما غير هاتفه أو ربما كان هاتفاً عمومياً!!
ومع تدهور حالة والدته ومرور هذه السنوات انشغلنا به، وبات الوضع مقلقاُ فقررت السفر والاستقصاء عنه، علّني أُطمئن قلبها عليه أو أقنعه بالعودة إلينا، فوصلت ليل البارحة وحجزت غرفة في فندق ثم تركتها اليوم ومضيت أبحث عنه. |

|
كل هذا عبر كالخيال مع عبور الحافلة، وتلاشى بتلاشيها وكأنما هي ومضات شوق أو ربما حيرة يلفها ألف سؤال وسؤال، اجتزت الطريق، وأكملت مسيري، لحظات من التأمل شغلتني وأنا أسير واستقصي العنوان، وأخيراً وصلت شارع الورود وبلغت البناء 22، قرعت الباب ففتحت لي امرأة عجوز تتكلم العربية ويبدو أنها من جذور شمال أفريقية، ظنّت أنني "مغامر" جديد يبحث عن نزلٍ يبيت فيه، فقادتني إلى الصالة وجلسنا، سألتها على الفور عن "ناجي" وعرضت عليها صورة قديمة تجمعنا وأشرت إليه وأمعنت بها منتظراً ردّها، لم تحتج وقتاً للتذكر، أخذت نفساً عميقاً وابتلعت رضابها بهدوء وقد تغيّرت ملامح وجهها للحزن ثم قالت : "رحمه الله" مات منذ سنوات إثر تعاطيه جرعة زائدة من المواد المخدرة، ووجدناه ملقياً في حمام غرفته ما بين المرحاض والمغسلة وجسده أزرق وبجواره أدوات غريبة لم نجد معه ما يمكن التواصل مع ذويه بخصوصه، فأخذته الجهات المسؤولة وسلمته لوزارة الأبحاث الطبية، قد عاش غامضاً ومات غامضاً وأسفاه على شبابه. |

|
وقع كلامها هذا كزلزلة الصاعقة على مسمعي، تسمّرت أطرافي، وشعرت بثقل في قدميّ، أردت أن أبكي فما استطعت، لم أصدق أنه مات، وأن نهايته بهذه الطريقة البائسة، حتى أنه لم يُدفن، بل سُلّم ليكون في موته عنصر إفادة للأبحاث الطبية لمجتمع لم يرحم غربته ولا احترم رغبته في أن ينام بسلام نومته الأخيرة، لم احتمل هذه الفكرة فهو ما زال في بالي بذكرياته وحكاياته، بشبابه وخطابه، وقفت بصعوبة ثم استأذنت ومضيت خارجاً، كنت مع كل خطوة أخطوها ألتفت حولي أتأمل مسكنه لربما أجد طيفه واقفاُ على النافذة يلوح لي أو يطلب مني المساعدة، فأخبره ها أنا جئت من أجلك يا صديق العمر والطفولة.
لماذا رحلت وفي الرحيل سكون .. ودربك البعيد الغامض كأيامنا مجنون .. وقلب والدتك النابض على فراقك محزون.
هل ضاق صبرك عن عزم العزائم .. فصارت فكرة السفر كالهاجس الدائم .. فإذا بالبعيد كالغريق في بحر متلاطم.
سنوات رمتك في أتون من اللهيب .. لم تفضِ لنا بعذابك فاستسلمت للنصيب .. ورحلت غريباً في وطن غريب. |

|
نظرت خلفي إلى شبح المنزل الرابض في شارع الورود حيث لا تنبت الورود، بل شوكٌ قاتلٌ يُضني الطموح ويُفني الروح، فرّت الدمعة من عيني ولم أعدد قادراُ على حبسها أكثر، عصرت رأسي بين يديّ وصرخت بغضب وبأعلى صوتي "ماذا فعلت بنفسك وبأمك وبنا بحق الله يا ناجي"؟؟ !! وكررتها مرات ومرات ...
نظر جميع من كان عابراً إليّ باستغراب، بعضهم ممن رأى في يدي الحقيبة وسمع لغتي الغربية ولم يفهم ما أقول ظنني تائهٌ أبكي غربتي فاقترب وألقى أمامي بضع سنتات!!!
ناجي - ولم يكن له من اسمه نصيب - ودّع تسع وعشرون حولاً من عمره، لي معه فيها كثير من الذكريات، ولقي حتفه نتيجة جرعة زائدة من " الطموح" لا أعلم كيف ولماذا؟ فهناك في عالم الاغتراب لا يوجد مبررات أو أسباب، فقط يموت المرء إن لم يحالفه الحظ تماماً كأوراق الأشجار إن بقيت على أمها اخضّر عودها وأينعت ورودها، وإن هوت عن غصنها قذفتها الريح بعيداً وسحقتها الأقدام العابرات فاهترأت ويبست فيها الحياة.
|
- تمّت - "بقلمي" Mayar 25 |

|