تسلل ضوء الصباح عبر نافذة أُغلِقت عنوة بمسامير كي تجبر كسرها العميق فبدا ضوءه باهتا ؛ ليسقط على وجهٍ تغضّنت ملامحه
حافرة أخاديد عميقة هنا وهناك بوجهٍ نحيف ليتحرك جسد لا يقل عنه نحافة ، تزامنا مع ذاك البصيص في غرفة قليلة المحتوى
تسمح بحركة حرّة رغم ضيقها الشديد . اتجه بحركته البطيئة ناحية الجدار والتقط من المشجب معطفا لا بأس بحالته ، ونظر مطوّلا
لصورة معلّقة بالحائط ، ثم خرج .
لفحت برودة كانون الثاني وجهه في قسوة ؛ فارتجف جسده بقوّة ،، ومع ذلك لم يبد عليه التأثر وأكمل طريقه ناحية ناصية الشارع المهجور
من أي ملمح للحياة ، إلى أن وصل لبوابة محلٍ مغلقة ، فأدار فيها المفتاح ودلف للداخل محتميا من تلك البرودة التي نخرت عظامه .
وما هى إلّا سويعات حتى بدأت الحركة تدب بالشارع ، وعلا صوت الناس بها ، كلٌ ذاهب إلى ما عليه من أمور لم يكن لمحله منها شأنا ،
وبدا وكأنه وصاحبه غير مرئيان لعالم تحوّل فجأة لضوضاء كريهة لا يُتبيّن منها شيئ واحد نافع ، ومع ذلك استمرّ هو بترتيب محلّه الشبيه
بغرفته ، لا يهتمّ بما يدور خارجه .
حلّ المساء سريعا ، وخفّت حركة الطريق ، وخفّ معها ضوضاءه الكريه ، ولم يبق فيه من الحياة سوى حركات العجوز الرتيبة بمحله التي
تخفت حينا وتشتدّ حينا آخر ، حتى انتصف الليل فخرج منه ببطئه المعهود ، مغلقا لبابه الصغير ، عائدا من حيث أتى في الصباح !....
ارتكن على حائط غرفته في إعياء محاولا إعداد لقيمات يغلقن أفواه جوعه ، وجلس على أرضيتها الرطبة وعيناه لا تفارقان صورة شاب
مليح الوجه له ذات عينيه الواسعتين ، وهو يجلس خلفه يضحك محتضنًا إيّاه في حنوّ أبويّ لم يبذل المصوّر جهدا لإبرازه .
خانته دمعةٌ سارعت بالفرار من عينه فاستقرّت على وجنته البارزة مذكّرة إياه بصوته الرخيم الآتي عبر الأسلاك بآخر مكالمة بينهما :
- " لا تقلق يا أبي سأعود الشهر المقبل بالتأكيد ، هى فقط زيارة للخارج وليست هجرة ... صدّقني ! "
- " وكيف سيكون الحال لو ارتأيت الاستقرار هناك يا ولدي ، كيف سيكون حالي بعدك ، ألا يكفي عملك بالعاصمة وابتعادك عنّي ؟! "
- " وأنّى لي تركك خلفي ؟! ، سأعود لآخذك حينها بالتأكيد ، أتشك في ذلك ؟! ، انتظرني فقط كعادتك بالدكّان ، سآتي لك بالمساء
كعادتي شهريّا ! "
ما زالت تلك المكالمة ترنّ في أذنيه كل مساءٍ ، يتذكرها مرارا وتكرار بكل صباح ينهض فيه ليذهب لمحله منتظرا وعدا مرّ عليه عشرون
عاما ! .. عشرون عامًا فقدَ فيها القدرة على العدّ ، ولم يستطع يوما أن يصدّق همسا ظلّ يؤرقه بأن فلذة كبده تركه وذهب دون حتى عبارة وداع ،
أو ربما أصابه مكروه ، بل ظل ينهر همسه دوما وبات باقيًا على عهد مساءه ، وانتظاره بين جدران غرفتين لا تختلف إحداهما عن الأخرى
سوى بالمكان ، وتشتركان في جسد هزيل ، وظلام دامس ، ورائحة انتظارٍ بائسة !