صَخبُ عامٍ مُنصَرِم ...
في انحناءة جدار مُتكيء على جدار .. في خاصرة الوقت .. على مُثلث الأزلية كانت تتهافت الأيام مُغيبة لا ندرك كيف ؟؟
ولا متى ؟؟ انقضت تلك الأيام .
في هذا اليوم سيغادرنا عام كامل ، غادرنا هذا العام رغبة في التخلص من الملل ، وكسر روتينه أو قد يكون روتيننا ، فهو لازمنا لمدة عام ، فهو عتيق كالخمرة ، كُنت فيه كجرس عتيق في كنسية مهجورة مقدسة ، لم تُدنس جدرانها بأخطاء القديسين ولكنها لم تَسلم من أن تشهد آثامهم .
هذا الشتاء تَعبث فيه دفء الذكريات ، تلك الذكريات التي ودعتها في عامي ، الآن تعود أدراجها لتنعش الذاكرة ، وأبقى أنا وعبق الأمكنة نراوح أمكنتنا لم نغادرها ولم تُغادرنا.
في هذه اللحظة أتمنى لو تكون لي ذاكرة مثقوبة ، تتسرب منها الذكريات ، فالحبل يضيق ورقبتي ثابتة ، فأنا أختنق والحبل لا يتغير عليه شي ، ولكن لا يمكننا أن نكون بلا ماضي ، ولا يمكن أن نكون بلا اسئلة عن المستقبل ..
المستقبل ؟؟!! سؤال يراودني دائما ، المستقبل ما شكله ؟!!
شبح غائب أرقني ، إيهٍ يا نفسُ ما لكِ ولهذه التُرهات ، ما فات انقضى والآتي لن يتأخر عن موعده ، فلمَ تُغريقيني بتلك الدوامة التي لا أنفك أن أتخلص منها ، ولكن تُجيبني نفسي ، يا فتى : لايمكن أن تكون عاري القلب
والذاكرة.
صدقتِ .. نعم صدقتِ ، كيف أكون بلا ذاكرة ، رعشة خفيفة تُلامس جَسدي عندما أنطق تلك الحروف ( ذ – ا – ك – ر – ة ) ، وأيُ عبء أثقلُ منها على جناحي ، عبء ثقيل ، وجرحٌ لايندمل.
جلبة تجوب في أروقة نفسي ، أسئلة لا إجابة لها ، بل لا مجيب لها ، ومن سيجيب عن اسئلة من ؟ هل هناك أُناس بلا أسئلة ووظيفتهم توفير الإجابات للمتسائلين فقط ؟ فللجميع أسئلة ، وللجميع حيرة تُميز بعضهم
عن بعض.
والأمور على طبيعتها أو على عادتها لم تتغير في غرفتي ، جدرانها تمتليء برائحة البرد في ثناياها ، ورعشة الهدوء تسري في جزيئاتها ، أجلس على سريري ويغطيني الزمن بذاكرتي ، كم يُؤلِمُني السقف !!!
تُرى كم مرَ علي وأنا أرى صور عمري في السقف .. ساعة .. ساعتان ، لايهم الوقت ، بل الأهم ماذا شاهدت في ذلك السقف ؟؟
الضوء نائمٌ على امتداد المكان ، وبقايا أحلام مبتورة معلقة هنا .. وهناك ، ثمة ذاكرة ترتعش ، وأصوات من غادرونا تعود إلينا وكأنها الآن خرجت من أفوههم ، لازالت دافئة ، وكأني أسمعها للمرة الأولى ، وبداخلي معالم دهشة طفل وجد نفسه فجأة في محل العاب .. بلا رقيب ، دهشة عابثة .. نشوة الحديث الرطب .
لايقطع هذه الحالة سوى نسمة هواء تتسلل عبر نافذتي المشوهه ، نسمة عابرة تُداعب رقبتي ، يقشعر بدني .. أنتفض .. وأبدل مكاني بتهالك .. لأجدني في هوة الحاضر .. ياااااااه ... أين أنت مني يا هذا ؟؟ وأين أنا مني فيك ؟ كيف لم تخطر ببالي قبل الآن ، كيف لا أذكرك وأنت الذي تكشف عوراتي إذا ما حاولت التجرد منك ، كيف لا أذكرك وأنت الصديق الشفاف الذي أروي له أحلامي وذكرياتي .
حينها أخجل من نفسي كيف هزأت من الحاضر ، وأخرج من كهفي ، أبدل أعتكافي ، وقد أكون ألوثه ، فالحياة ليست مثالية تماما ، أخرج من قوقعتي الصغيرة ، لأراقب النجوم ، وأحدق في السماء ، اتلفت لفرط الحكايات التي تمر بي ، جدران منازل هادئة تُخفي خلفها آلام مكبوتة ، أراقب أُناس يقفون على رصيف الأمنيات كجذع نخلة اقتات الزمن عليها ، لم تفلت من أيدي السارقين ، فأصبحت خاوية ، ينتظرون موجة لطف عابرة ، إما تُنهي الإنتظار ، أو تستعيد الأمنيات الهاربة .
تتجرد الأيام أمامي بعفوية حمقاء .. لا سِر يختفي .. أمد ذراعي لأتحسس وجهي هل أنا ما زِلتُ أنا ؟ أم أنني شبح يرى الأشياء بكامل تفاصيلها ؟ فالأشياء لا تُزيل الحجاب عن تفاصيلها للجميع ،
هل هذه التي تسري في عروقي دمائي ؟؟
أم أنه دنسٌ أحمر خلفته فتاة على سريرها عند اكتمال دورتها؟
أم هو ما لفظه شاب أفرط في الشرب فأصابته قرحة بالمعدة ؟ ..

تحمنلي قدماي إلى ما لا أريد ، فكيف أريد ما لا أعرف ؟؟!! ، غالبية المقاعد مشغولة هنا ، أُزيح بعض الرذاذ من على زاوية صغيرة بالكاد تتسع لي لأجلس وأُشغل نفسي بقضم الريح وما تبقى من أظافري ، وفي أذني سدادة أستمع فيها لبقايا لحن قديم .. أنا لا أحاول إضاعة الزمن ، ولكني أُفرط في مداعبة فنجان القهوة.
على غير عادتي أغير المكان سريعا ،ألملم بقاياي لأدور في فلك الحيرة مع ذلك الفتى..
ياااااااااااااه أين كنت يا هذا .. لم حالت بيننا ضبابية الكلمات ، كلانا التقينا على زمهرير الاغتراب ، فلقد التئم شملنا هنا ولأول مرة ، هذا أنت يا صديق ، ظلك مائلٌ هناك ، تعال معي فالغربة تجمع شتات المغتربين ، نسير أنا وهو على وقع ضحكات مسروقة ، نتمايل طربا على بعضنا لا لشيء بل لأننا أهملنا ساعة مفروضة علينا.
نحلق بعيدا بكلماتنا ، يُحدثني عن حلمه ، وعن ميميته ومثلثته المتقاطعه ، قد يكون كلامنا غير متصل ولكن وجودنا متصل ، ومن هناك نرى شبحا غائبا قد غيبته الأيام عنا ، كيف ؟؟ ولماذا ؟؟ لاندري ولكنه مثلنا ، فأصبح ثالثنا لنكمل المثلث الذي أضاع زواياه.
في زاوية لا تُشبهنا التقينا ، وتثلثنا على بعضنا لنُضيع الأيام إذا ما مرت بنا ، نحط أحمالنا على الأرض فهي تتكفل بها .
اختفي بلا استئذان عنهما ، أغادر المكان بهدوء ، فالظل هادئٌ لا يُثير الجلبة عند مغادرته ، أسرق حياتي بكامل تفاصيلها وأنأى عنهما ، فعابر السبيل لا يترك شيئا خلفه ، لأجدني في في داومة الغبار ، هل أنا أشتهي الغبار ؟؟ أم هل أنا أُفرط في تدليل ذاكرتي الصدئة لتُجهض طفلا يابسا .. عابسا .. يخاف مستقبله وما حاضره إلا استكمالا لماضيه.
أعود أدراجي حيث الكهف والمعتكف ، وقبل ذلك .. تستوقفني نفسٌ غارقة بحلم أشبه بوردة بان ذبولها وانحنائها وسط قحط وحرارة تَصهر الأبدان .. يا نفسٌ ماذا ترين وأنتي واقفة على باب من حجر يصعب عليك رؤية ما بعده ؟ ويقطع حوارنا ذلك الفتى الذي أرهقه طول انتظار ، خمس سنوات عجاف .. خمس سنوات يعيد بناء الوقت كل عام...
يبنيان بئرا ماؤها طُهرُ دمع من عيون ذابلتين قد أعياهما زمن العصيان . لجام الصمت القابع خلف النبض المدثور يُخيم عليهما فليس معهما سوى الأمل .. والوقوف طويلا على هاوية القدر .
وفي صمت الليل لا يبقى سواي مع نفسي .. أحاول نفضَ جدران رأسي ، لتستفيق الذاكرة من جديد ، تتسكع بخُيلاء أمامي ، بعدما أخذتني الحياة بعيدا عنها ، أشغلتني عنها نهارا ، ولكنها تأبى إلا أن تزورني ليلا .. فهي تُحبني وحيدا .
ولأني لم أهيأ قلبي لوجع بهذا الإتساع .. أصبحت أُقيم بأنفاس الذكريات مآتم .. حتى ضاقت بي غصات الحنين المحجر .
تمتد ألسنة الذكريات لقشور الربيع التي تذروها تلك السنين العجاف .. تَبتلُ من حزنها أصابع الرماد .. وتجر الصراخ إلى أجربة الصمت المعتق في الزوايا .. فتزداد اللحظة كآبة . بعض الذكريات آثمة .. كإثم آدام الذي أخرجه من الجنة .. ولكن لا ورق يواري سوئتي سوى الصمت .. مذعورة فصول هذه الحكايات .. هل الأطلال المكسورة تَجبر صدع القلب .. أم أن البوح في زمن كهذا كالملح فوق الجرح .
تساؤلات كثيرة تُثير الجلبة .. وتصيبني بالدوار .. فكأني أهيمُ في دائرة أبحث فيها عن زاوية قائمة .. ولكن أبواب الموت لا أحد يطلبها مع أنه الكثير ينتظرها والكثير يسأل عنها.
يتصدع رأسي .. تَضيق دائرة النَفَس .. أغفو بلا إدراك ، مع أنني لم أَتهيأ للحلم بعد .. فالأحلام جميلة .. ولكنها أجمل من شكل تحققها فقط .. لأستفيق على صوت الرتابة المعتماد ، يُناديني بشغف .. تعال ..
ينهض جسدٌ متهالك على وشك السقوط ، تحمله نبضة قلب تكاد أن تتوقف ، يشهق الحنين ويزفر الأمل .. والملل .. أمل اللقاء .. وملل الإنتظار ..
أحزم أموري وأقرر أن أغادر ، أرتدي معطفي ، وأتجه نحو الباب ، أُلملم نفسي تحت معطفي لأخفي بعثرتي ، كانت كل الأشياء كما تركتها بالأمس .. الأبواب .. المنازل .. الجدران ..كلها مكانها وبالهدوء نفسه , كُنت سريع الخطى كعادتي .. لعلي أحاول اللحاق بشيء أجهله ، أو لعلي أهرب من شيء يريد أن يقتات على لحم كتفي .
لم أفقه شيئا من هذا السلوك ، فالسماء شامخة فوقي ببلادة ، وضجة الأسئلة تَغمرني بالصداع ، فلا أحاول أن أطرح المزيد من الأسئلة ..
كان الطريق المؤدي إلى موقف الحافلة على بُعد مرمى حجر ، أصطف بمكاني .. فالجميع قد سبقني وقد هموا بالخروج أيضا ، كنت أتشوق للوصول مع أني لا أنتظر شيئا .. ولاشيء ينتظرني.
ولكن كان الوصول إلى محطتي يؤسفني دائما ، هل هذه نتيجة البعثرة ؟.. أم أن قلبي أصبح مثقوبا تختلط فيه مشاعر الشوق والأسف ؟.
كان وحده يقف على الجهة المقابلة من نزولي ، وحده فقط يُشير برأسه إلي وكأنه يخبرني أن قهوتي أصبحت جاهزة .

تختلط رائحة الصباح مع الرشفة البكر من قهوتي ، أسير ويصحبني الصمت أتظن الكلمات أن بهذا القدر من الوحشية لوأد الحروف في تربة الكآبة .
فتخذلني الكلمات .. وأخذل نفسي حينما أصمت كثيرا ، حتى أفقد قدرتي لبث الهواء في أحبالي الصوتية لأتحدث .. فإن حاجتي للتحدث كحاجتي لرئة ثالثة الآن .. الآن.
إنه الحال .. حالي الآن .. كيف لي التحدث عن مشاعرٍ أشبه بطفل معاق .. لا يكبر .. لا يسمع .. لا يرى .. لا يتحدث .. كيف له وكيف لي أن نُكتمل . لا أدري لكنه الحزن وكفى.
هناك الكثير من الأشياء التي أود أن أتنفسها ، فكلما تضغط الحياة بحذائها يزيد الضغط للداخل ، فالحياة هي الوحيدة التي تعبر على الأجساد .. تلك الأجساد التي تأكل منها الدقائق والساعات والأيام .


لازلت أتذكر كيف كان تمر تلك الفصول :

شتاء .. بارد يُقاطع الأزمنة .. وفي الأفق ترقص النجمات على أوتار الغيم ، ليهطل لحن الاشتياق مطرا .
على بوابة الخريف أضعت الوعد .. فلم نلتقِ .. آآآه كم ترتجف الثواني .. أشعر بها .. أسمع اصطكاكها ببعضها .. ترتعش شفتاها ولكنها لا تتحدث .. هل هي حقا صامتة ؟ أم أن الميت لا يراه إلا الأموات ؟
وفي الصيف أخبيء حكاية شوق في معطفي ، أُشعل سيجارة ذهول .. وأطفئها على حافة الرصيف قبل الرحيل.
أما الربيع .. فكان معتق بالأمنيات .. أُقدم فيه إكليل رجاء كل عام .. أُفصح بعض الشيء لنفسي بصمتٍ ..وأتنفس .. ثم أمضي .


من كل الأنحاء أخرج ، أبحث عن بوصلة ترشدني ، وها أنا أعترف أني أنا الركام العابث .. أني الغبار الساقط بالترهات .. وليس له معنى .
أني أطياف أمل خاوي بلا مغزى .. الكسول طمعا بلا عمل .. الطموح النجاة بلا رجاء .. المسترخي على طموحاتي العجاف .. المتقلب بقالب إنسان .
أجلس ليلا لألتهم الظلام .. ألوك ما تبقى لي من وقت .. أحصد الأحلام بمنجل العمر .. تلك الأحلام التي سقيتها برتابة الوقت .
أربت على كتف الحاضر .. وأهمس في أذنه لا تقلق ، الماضي على سوءه فإنك تحتاجه ، والمستقبل أيضا تحتاجه حتى تُكمل الطريق .
أُبصرُ غرةَ الفجرِ ، أعود لألبي صوت الرتابة من جديد ، والعهد صار يتيما .. بعدما رحلوا مدمنيه .. ماذا أصنع بقلوب صدئت .
~~الخاتمة~~