توقف على حافة ذلك الرصيف الذي لا يؤدي إلى أي اتجاه ثم ركب قطارا مسرعا لا يتوجه بدوره إلى أي مكان، ومع سرعة القطار المتزايدة .. شعر هو أيضا بضغط الوقت.
فبدأ يتوهم أنه يستعجل السائق .. صارخا : ألا يمكن لهذا الشيئ أن يسرع أكثر سنتأخر حتما .. وفي سخرية يردد : حتى عربات الرومان لم تكن بطيئة بهذا الشكل.
تعجب كل من حوله لقوله فقد بدى للوهلة الأولى هادئا، ساكنا حتى انتفض مفجرا حديثه الداخلي دون شعور ولا إرادة منه .
قوله ذاك جعل رجلا في السبعين من عمره تقريبا كان جالسا أمامه يلتفت ليكتشف من هذا الذي يتحدث عن عربات الرومان ـ ربما ذلك ما كان يهمه في حديثه أكثر من أ شيئ آخر ـ وامرأة بجانبه ـ يبدو أنها زوجته ـ تردف على كتفه مرددة : شوف قدامك وهي تحمد الله أنه ورغم كبر سنه لم يصل لهذه الحالة المتقدمة من الهلوسة .
ارتسمت على وجهه ملامح من الحزن ، والقلق، وقليل من علامات الحيرة، كل ذلك جعله يتناسى أن يسأل نفسه إلى أين يذهب !
ويستمر القطار في التهام شريط السكة الممتد على طول الطريق، بينما كان هو يلتفت ذات اليمين وذات الشمال كالباحث عن شيىء ما .. أو كالفاقد للذاكرة وبعض مقتطفاتها يباغثه بين الفينة والأخرى .
بدأ الضغط يكبر بداخله أكثر وأكثر كلما تكرر دوي صفير القطار، فيظهر كالخائف من موعد لقاء غريب أو مفقود، لم يمهله القطار ولا الزمن أكثر فعزف مقطوعته الأخيرة معلنا عن الوصول لمحطة الذهاب الأخيرة .
نزل الكل إلا هو، بقي يرقب المسافرين ومنتظريهم يعانق بعضهم بعضا، قام وغير مقعده الذي صبر على ثقل همومه أكثر من وزنه لساعات ومزق تذكرته الأولى ثم أخرج تذكرة جديدة كانت معدة سلفا لتؤدي دورا ما.
انطلق القطار من جديد وابتدأت معه سمفونية جديدة معلنة عن ابتداء قطعة أخرى من مقطوعات التيه و التشرد الحزينة .
همس بنبرة ساخرة : لا أدري لما كل هذه العجلة ؟! وكأنه يريدها هذه المرة بطيئة حتى يستطيع أن يؤديها بإتقان على خشبة مسرح مكونة من قضيبين حديديين يحملان أثقاله إلى مكان لا يريد الوصول إليه، وبين الفينة والأخرى يحرك شفتاه بكلام لا يتجاوز حدود حلقه لكن تهتز دواخله بصداه مرفوقا بتنهيدة طويلة ، بعدها يلعن الجميع على الوقت الضائع الذي أضاعه بين الذهاب والإياب ثم يتكئ على زجاج النافذة ويغط في نوم عميق وهو يتمنى ألا يصل القطار إلى أي مكان وأن يكون مساره الجديد لا يؤدي إلى أي اتجاه ..