ها هي علامات الكبر تلوح أمام العينين أخيرا .......... و ها هي أقسى ثواني العمر تطبق عليه بقبضة من حديد .
و ذلك الوهن المقيت بدأ يدفع همسات السرور بعيدا لتحل محلها لحظات عسيرة كرجفان اليد و تجعد البشرة و ارتفاع الضغط و وهن العيون ......
تلك العيون العسلية التي كانت في يوم مضى شعلة مضطرمة من الجمال و السحر البديع ، ترى ماذا حل بها اليوم ؟
و ذلك الشعر الحريري نال نصيبه أيضا فقد وشع به الشيب و أضاءت به خيوطه البيضاء الصامتة و الموحية بقروب النهاية ، و برغم ذلك كله مازال بداخل الرأس المترنح مليون حكاية و مليون سر و أمنية .كم آلمتني رؤية الجسم الهزيل ذي الساقين المستدقتين عند أخمص الأقدام ، إنه يحتضر فوق حافة السرير فهل هي النهاية هذه المرة؟؟
ماذا ستترك و راءك غير بدلتك السوداء الرسمية ، و حكايات رسائل خالطتها النشوة و الطموحات و الشجن ، بل أنت بحد ذاتك رسالة تمشي على بقدمين و تجول بين الشوارع و المدن و الحارات الضيقة ، أنت رسالة ود يا موزع البريد ، تنتظرك العيون المتلهفة خلف البيبان ، بقلوب مازجتها عواطف القلق و اللهفة و الشوق في انتظار رسالة من عند الخطيب ، أو من عند ولد مغترب يقبع خلف الديار ، أو من والد هائم في أقاصي الأرض بحثا عن قوت العيال ، اليوم أقف لك بكل احترام ، احترام يليق بمقامك يا ناشر الأخبار السعيدة ، و يا صاحب المحفظة الجلدية القديمة المهترئة الأطراف .
في صغري كنت أراك مهرولا في نشاط يشي بحبك لمهنتك ، و كانت يدك الخفيفة تضع الرسائل تحت الباب بينما تطرق اليد الأخرى على الباب في خفة مماثلة ثم سرعان ما تختفي بين الحيطان كالسراب . و أخيرا أعطتك مهنتك شكلك المحبوب ، و روحك الوديعة و قلبك المجاهر بمحبة الناس ...قال والدي مسيقنا :
إن ساعي البريد هو الإنسان الوحيد الذي لا يفرق بين طبقات البشر، فهو يوصل الرسائل للفقراء و الأغنياء ، و لليتامى و الثكالى و كذلك للصوص و السكارى .
-كم من مرة تعرضت للإزعاج و أنت تمارس مهنتك ، كأن يتبعك الأولاد الصغار و هم يغنون خلفك في حبور " الفكتور الفكتور..... راهو يدور راهو يدور .....نديرولو قهوة و فطور " ..... أو أن تتعرض لعضة كلب شريد قرب مكب النفايات.
و ربما باغتك أحد الحمقى بحجارته المصوبة نحوك . و رغم ذلك كله تواصل عملك في خشوع عجيب .
كم من مرة أحببت أيها الرجل المثالي ؟ ..... و أي جنون اعتراك و أنت تقفز خلف سور الحديقة تود لقاءها ؟
يومها نعتك زملاؤك بالمجنون.
في الحقيقة لم تكن مجنونا و لكنك كنت رمزا للحب و اندفاعاته الثائرة، كانت رعونة الحب و الشباب تتفجر في قلبك في كل ثانية ، و أحد في الدنيا لم يفهمك بالقدر الذي فهمتك به هي ،أما زملاؤك فلم يصفوك بالمجنون إلا غيرة منهم ، فهم كانوا لا يفقهون في ثورة الحب إلا الرماد .ولا يحسنون السفر لعالم الحب إلا بجوازات سفر مزيفة ، أما أنت فتدخله من بابه الواسع.
كنت رفقتها تجلس عند التلة الكبيرة، و ترمقان بعيون دافئة مغيب الشمس، فوق تلك التلة بايعتها على الحب و بايعتك على الوفاء ، و ها هو الحب يثمر آخر الأمر بالأولاد و الروعة و الهناء.
كنتما تحبان سقوط الثلوج و في كل عام تنتظران عودة زوج اللقالق الذي يعشش فوق عمود الكهرباء المقابل لبيتك، و مع عودة اللقالق كنتما تجددان عهد الحب و الوفاء .
فليشهد الحب يا موزع البريد أنك أستاذي ، و أنك وحدك نبع يستقى منه معنى التضحية من أجل الطرف الآخر ،علمتني كيف أقتحم عالم الود بقلب صاف و علمتني كيف أجول فيه كالمركب الساري و هو يشق اللج مختالا، قصصك تدور في المجالس كلما احتسيت قهوة أو شربت شايا ......فأتوق بكل قوى العالم أن أشكرك .
أود الآن أن أسألك : هل كنت تكتب رسائل الحب لحبيبتك و توصلها إليها بيدك ؟
-اليوم و بعد ذلك الزمن الجميل ، يلقيك القدر جثة هزيلة ضعيفة فوق السرير ... و محبوك يتسمرون حول سريرك متمنين لك الشفاء . و جاء الطبيب فجأة و رأسه يقذف بعينيه في كل اتجاه ، تطلع الجميع إلى عينيه الداهشتين فتيقنوا من صعوبة الموقف .
و خلف الأكتاف تبودلت النظرات الحائرة و طارت الأماني و الدعوات بالشفاء لساعي البريد . و لكنه كان ينظر إليهم في ابتسامته المعهودة و طلب منهم أن يهونوا على أنفسهم ريثما يحين القضاء .
-رشف من كوب الشاي رشفة صغيرة ، و بالجهد عدل هيئته وسط محبيه ، و راح يتحدث بلا نهاية عن عمله الذي مارسه لثلاثين سنة كاملة . إنها مرحلة كفيلة بصنع الرجال و فيها تدجنت حواسه و من خلالها رأى الدنيا بعين متفحصة عليمة ، نظر إليهم بود و قال بصوت مبحوح مازجته ابتسامة :
أعتقد أنني أديت رسالتي في الحياة ..
أخوكم : أمين ولد سعيد