أكـــــــــــــفان الرمــــــــــــــــــــــاد.
و حين بلغ منها الدجى ذات يوم،إستطلعت إلى الأفق تنظر إلى الشمس...تنظر إلى جمال الطبيعة المخلوقة أمامها،كأنها صورة سريالية موضوعة أمام بساط عينيها... كانت تلك عادتها التي تمارسها منذ صغرها حينما تحن إلى والديها،بعد أن كانت ذكراهما مجرد خيالات كوّنتها نفسها الجريحة،..كم كانت تهوى أن تطل من نافذتها لترى أمامها المغيب،وقد سكنت كل الخلائق...وسكنت معهم قسوة الحياة...لتمنحها قليلا من السلام تهنئ به مع صورة لوالديها،كانت تُكسر كل ذكرى خانقة تأتيها،لتمنح نفسها عمرًا آخرا و مكانا آخرا و حياة أخرى ...في بُعدٍ آخر،
تنظر إلى السماء لترى وجهيهما و قد إبتسما لها،فتمد يدها عساهما يداعبانها،ولكن الحلم... لا يأبى دومًا إلا أن يكون حقيقة!!!
"كم كانت الحياة حاقدة عليها،ولا تزال"،تلتف إلى بطانية لا تناسب حجمها،لُتدثر بكلِها جزءا من جسمها الهزيل،كانت تعيد ذكرى سنواتها الأربع الأخيرة،حين أتتها جدتها لتخبرها أنهما سيرحلان من البلدة،لم تُصدق في بداية الأمر كلامها بل ظنته مزحة من مزحات الربيع،حين يأتي متختلا بين أيام الشتاء الأخيرة،ضحكت ثم قهقهت قليلا،لتبكي على وقع دمعة نزلت من عين الجدة..."لماذا؟ "هذا ما استطاع لسانها نطقه.
كانت تحمل الكثير من الألم ويدها الصغيرة في يد جدتها، وهما يطرقان الطريق مبتعدتين عن بلدتهما،بعيدًا عن ذلك المنزل الذي يمثل لها السعادة بكل ألوانها...لطالما ركبت على ظهر جدتها،لتجعلها تفرح كمثل باقي الفتية خارجًا حين يمتطون لعبهم، لطالما لعبت دور المعلمة مع تلامذتها الخياليين وهي لا تدري حتى كيف تكون المدرسة،إلا ما سمعته ذات يوم من قريناتها حين باعتهم رغائف خبزٍ محمصٍ ساخن.
نهضت من مكانتها،وراحت تجوب غرفة المنزل الوحيدة،كم هي صغيرة!!كيف استطاعت هي وجدتها ذات يوم أن يسكنا فيه؟
مرت بركن الغرفة جانب الباب،تتحسس الجدار بأطراف أصابعها المجمدة...هناك في ذلك المكان...كانت الجدة تصب لها الماء الدافئ كي تسخن رجليها الباردتين،حينما تأتي مع المغيب فرحة بعد أن باعت كل بضاعتها،بسمة صغيرة حزينة علت فاهها،حين تذكرت كيف أنها كانت تجلس في حضن جدتها لتروي لها قصصًا من بطولات والديها،حتى تنام نومًا عميقًا،كأميرة قد وجدت حذائها المفقود...؟!!
واصلت سيرها في المنزل بخطى متباطئة،كانت تستحضر كل ذكريات عُمرها في تلك الساعات،تتذكر حين مغادرتها له،كأنها غادرت تلك الأيام السعيدة،و منحتها وعدًا صادقًا "ببرائتها" بعدم العودة إليها أبدًا،كيف أنها وبعد سنتين،أتت إلى وكرها لتجد جدتها مستلقية على قطع ملابس جرداء،وقد أخذها المرض بعيدًا في الهذيان،رمت بدريهمات قليلة جنتها على الأرض،وراحت تحتضن رأسها في حجرها الصغير،كانت تبكي بحرقة،وتحاول أن تخفض من درجات حرارة جدتها بيديها المجمدتين،لحتى جمدت كلتيهما،لم تعرف قبلا أن الإنسان الميت هو الذي لا يتنفس،لم تعرف قبلا أن الجثة لا تتكلم،فراحت تقص الحكايات على ذلك الجسد الذي غادرته الروح من ساعات،وتروي لها نفس البطولات تضحك مرات،و تقلد صورة الراوية كثيرًا،و حين سكُت الخلق،نمت بين يديه على صدره،مبتسمة أنها إستطاعت أن تجعله ينام،تماما كما كان يفعل هو كل يوم...
ما إن تم الدفن،حتى غَدرت بها الأيدي،وترامتها الأرجل،كانت حينها قد بلغت عقدها العاشر،لم تدري أين تذهب سوى أن تعود إلى منزل السعادة،منزل الذكريات،علّها ستتطبب بها وبما تبقى من آثار لنفسها فيه،
هاهي قد عادت،و انقضى من الوقت ما انقضى،وهاهي الآن على الأرضية وحيدة منهارة،تحكمها الخيالات،وتردعها الأحلام،فهل أغتيلت الأطياف من بصرها تماما كما أغتيل والداها؟؟
كانت ترتعش مع كل انتفاضة للأحلام السعيدة،تخون الوعد،و تبحر في عالم دافئ،عالم تستطيع فيه أن تعود إلى جدتها،تبيع معها باقات زهور يقطفانها في الصباح الباكر،يفرحان بما تُحصلانه،لتعودان إلى المنزل،تأكلان رغيف خبز تتقسمانه،و تتشاركان الضحك،بين حكاية و دغدغة،بين قبلة و إحتضان،بين قلب كبير حنين و قلب صغير محب آنس بتلك الأيدي الدافئة التي تحضنه،تحضنه من لدغات الحياة،وتقربه إلى جسد كهل،يتمسك بكل أمل في الحياة فقط لكي يحيا له،ومعه،يتقاسمان بطانية قديمة ثقيلة،و كثيرا من الأنفاس المتداخلة،أنفاس الحب و الحنان...و الأمومة...
سحبت نفسها،و بقيت تتأمل تلك الباقات الموجودة أمامها،لم تبع أي منها اليوم،فلم تجد صناعتها يوماً كما علمتها جدتها،ثم سكنت قليلًا،وهي تحاول أن تدفئ نَفسها ببعض من أَنفاسها الجامدة...
جابت ببصرها أنحاء المكان،ثم نهضت بتثاقل إلى النافذة لترى جنتها الخالدة التي رسمتها دومًا،وترى معها يدي والديها و قد قبلا هاته المرة بأن يحضناها،مع جدتها، إلى الأبد...حتى تنعم بدفئهما الأزلي...بعيدًا عن قسوة الحياة هناك…
،
،