&&& قِطعتُك جنة &&& بقلمي
آخر
الصفحة
imyli

  • المشاركات: 5062
    نقاط التميز: 2235
كاتبة قصصية في منتدى القصص القصيرة
imyli

كاتبة قصصية في منتدى القصص القصيرة
المشاركات: 5062
نقاط التميز: 2235
معدل المشاركات يوميا: 0.9
الأيام منذ الإنضمام: 5715
  • 02:55 - 2012/12/05

&&&   قِطعتُك جنة  &&&

لم تكن قبلاتي الحارة على خدّها و جيدها ، حضني الواسع عليها أو طولي المستفحل في غَمْدِها بيني مُفلحين في إطفاء حميم قلبها، لم أملك وسائل دفاع ضدّ دموعها الباردة التي كانت تهبط مباشرة بمطار قلبي فيهتز ضجيج المسافرين بالفؤاد و أغص بهم، فيطول بنا عناقُ النحيب..

أُمّي...كانت الكلمة تهتزّ بين أحبالي الصوتيّة و تتغطى تحت لساني كأنها تخجل، أو تخشى أنها لو خرجت ستعلق في خضم البكاء و تصير مفرغة للألم بينما أمي نبع للسعادة، فالتبس عليّ توقيتُ الصمت و الكلام. التحفتُ برودتي في التعبير و لم أتفوّه بخطأ يجعلني غير ذلك، لم أخبر أمي كم أحبها لم تعلم أنها أورثتني صُلبها الذي لا يتقبل بسهولة الفراق.

قبل تخطيّ للباب للمرة الأولى في حياتي مبتعدة عنها، في حين أن الواقع يقول أنها الكرّة الثامنة عشر بنفس الأحاسيس بل بتراكمات الأوجاع... لم يَخْفَ على نجلاء العينين أن تضع وشاحا على رأسِ حفيدتها و تُحكِم ربطته

ــ يُشارف المغرب و سيكون الهواء باردا ... انتبهي عليها

بقربه أضعُ حزام الأمان مغالاة في مسكِ انفعالاتِ صدري الذي يتسارع نشيجه المضطرب، رغم أنّه لم يشغل السيارة بعد...ألتفت لصغيرتي التي نامت ما إن طوقها بذراعه وأرخى وسادة كتفه لها، أرقُب التحام أشفارها كنصل يلمع حتى في هدوئه و ما تنفكّ عيناي تطالع والدها في مقارنة تُعادِله بابنته، ثم أدورُ مرّة أخرى لألوذ بنشيجي للدفء الذي يدوي به وجهها البريء.... فردة حذاء يُمناها ضائعة.

عند هدير المحرك و خلف زجاج النافذة أودّع الفردة اليمنى، كأن بي لُؤما سكنني لا يدعُني أخبر زوجي بضياعها أو بمكانها... لكنها سُنّة صمتي، صمتي الذي يفكر بأنانية و يخبئ أسراره في جوفه، فهو لم ينتهك عِرض ما أحب من أفكاري الغريبة التي تتصنع الشرف... أحببت و بشدّة أن تعلق فردة ابنتي في مدينتي أن أحكيها لها عندما تكبر بشيء من المبالغة، أن تهتم للمكان الذي ولدتُ به و أن تجبرها ذكرى الحذاء أن تعود للمكان و تتفقد بعدي الأهل و الخلان.

أفجعَتْ مصادفةُ البحر أسارير الصمت، فشخرتُ كمن غمّه الموت لكن النبضة الأخيرة في قلبه استرجعت ذكريات الحياة، موجعة تلك اللحظة التي لا يحدد فيها المحيطون بك في أي عالم أنت بينما يعزي قلبك إحساسك الميت عنهم، كذلك كان رفيق دربي مرتبكا و هو يعتقد أن رؤيتي للبحر رشفة حياة أرتوي منها قبل الرحيل،أما أنا فتعست مشاعري إلا عن ذلك الرجل بهيأة أبي الذي يمسك صغيرة تمشي على حافة حرف الجدار المبني بطول الشاطئ و فجأة اختفى أبي ..الرجل.. فخشيت أن تقع الصغيرة، أرهقني ذلك المشهد، فأنا لم أتمكن من ضم والدي مثلما فعلت مع أمي لفقدي لذاته المجسدة أمامي، لأنني قبل رحيله الأبدي لم يتجاوز بُعدي عنه جدار الصوت لأقبل يديه و لأنني لم أعِش لحظات وفاته بقيتُ أعيش على ذنب لا يفكر به مؤمن...أنني لو وصلتُ مبكرا لتغيّر مجرى الأحداث و لعانقته عناقا أمنحه فيه روحي ليعيش مجددا...استغفرت الله و بكلتا يدي غطيت وجهي و استمررت بالبكاء...امتدت يده على كتفي لبرهة يُعلن فيها عن كونه إلى جانبي و سحبها بسرعة لا يريد بها مقاطعتي... أردف بهدوء

ــ هل تنوين ايقاظ ابنتك !....؟

السحبُ تلتهم المدينة و بعض آثار الجريمة المتوارية خلفها تركت ندوبا عالقة بالغيم، بعد أن نزفت حزما برتقالية بدابر الأرض، ما إن غرُبت المدينة خلفنا...وردني على الهاتف اتصال والدتي

ــ أين أنتم الآن؟

ــ نحن،نحن في ....  قاطعني  وهو يقول

ــ أخبريها أننا تعطلنا بالزحام، الآن فقط خرجنا من المدينة

هِمتُ باجابته...صحيح أنني كنت نصف واعية لِما يحدث حولي لكن أ لم تكن طريق البحر السبب في تأخرنا، رغم أن الزمن الذي قضيناه على دربه بدا لي كأنه أفلت منا بسرعة شديدة، كما تُفلت أمي حروف نصائحها شديدة اللهجة للاهتمام بصغيرتي..

ــ أمي هل ستبكيني سماءُ مولدي كما بكيتُها

ــ مذا.. ما الذي تقولينه؟ ألووو... أعيدي ما قُلتِه

و ضحكة تطلق عنانها لصدى يرتطم على الزجاج و يعلو وسط كهفنا المتحرك...نظرتُ باكتراث شديد لوجهه الضاحك محاولة تقصي الأفكار التي تعبثُ برأسه

ــ لا شيء...لا شيء، أتصل حين نصل.

بعد أن أفرغ كلّ ما بجعبته حتى من ضحكه الفاتر بين هنيهة و أخرى

ــ هل سألتها إن أمطرت بعد رحيلنا، تودين أن تودعي المطر أيضا، أحسدُ حِسّكِ التطلعي للطبيعة و ما حولكِ...و تجيدين صياغة الأسئلة أيضا...ههه

ــ اسس...ابق هادئا، على الأقل لم أقم بايقاظ ابنتنا كما تفعل الآن

أخذت صغيرتي في حضني و عدّلتُ وضع الحزام على اثنتينا، مدركة أن الصحو بالرغم من الغروب كان قابعا خلف المقود، الرجل الذي كلّما رأى بكائي يُحمّل نفسه ذنب عذاباتي، الوحيد الذي يجد سُبلا لإسعادي كمقاطعتي، حتى أن تعليقه بنفس قالب التعليق الذي جعلني في زمن مضى أسوغ لنفسي التعديل في كلماتِه...يومها قال "قَطّعْتَكْ من العسل" و كنت لا أحفظ و لا أفهمُ الأمثال على بساطتها، فأعدتُ تشكيل المثل لأجعلني أصدق أنه نطقها " قِطْعَتُكِ من العسل" فأبتسم.

بعضي الحائر انبسط براحة يده التي ضمت يدي كلتينا،فطوقني الأمان أنا التي كنت قبل فصله بومة تقتفي الطرق و تأبى إلا أن تعاند الغفوة بعينين تفتحهما حتى تنتهي وجهتُها،لكن على غير عادتهِ طار الأرق فنمت.

أفقتُ على بكاء صغيرتي، بين أناس لم أعرفهم، و سرير يربطُُ شخصا بأحزِمة ((الأمان))، و نمت....  في وقت آخر فجِعتُ على كلام نسوة تقول احداهن

ــ هذا فألها السيء...جعلت طريقهم كلها بكاء

وقفتُ فزعة.....أمي تحمل ابنتي و تكلم بعضا من عائلتي و عائلته...التفوا من حولي فأقعدني الدوار مرة أخرى السرير

ــ حمدا لله على السلامة

ــ أين زوجي

ــ في الرواق الخاص بالرجال

جررت أختي لتقودني لمكانه...دخلت الغرفة، كان يبدو بحال حسنة كصغيرتنا، تنهدت، تلعثمتُ، و كدت أبكي لولا استحيائي من رجال عائلتنا المحيطين به، نظر إلي كمن يسأل إن كنت سأستمر بصمتي. ابتعدت عن مكانه ألومُ كلماتي التي تضيع كلما أردت اخراجها، أعاتبني على جُبنِ السؤال عن الحال و الدعاء.

بعد سويعتين فرغت الغرفة من أهلنا بعد اطمئنانهم،فأمكنني نطق كلمتين لا تخدمانني في ارضائه

ــ قطعتُك جنة

و وقفت على إثرها إلى النافذة المقابلة لسريره، تاركة إيّاه ضائعا في ماهيتها و سببها.

 

 &&& قِطعتُك جنة &&& بقلمي
بداية
الصفحة