جـــامعة عبد المالك الـــسـعدي
الـكلية المتعددة التخصصات
بتطوان
بحث لنيل دبلوم الإجازة=
القضاء في الشريعة الإسلامية والقانون المغربي
السنة الدراسية: 2007/2008
" الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله "
صدق الله العظيم
مقدمة:
إذا كان هناك من شكر وحمد وثناء فهو لله عز وجل , ذلك لما أنعم علينا بنعمة الاسلام أولا , ثم بما أعاننا وسهل لنما السبل وذلل لنا المصاعب التي اعترضتنا منذ بداية الدخول في هذا البحث حتى نهايته ,فحمدا للمولى على آلائه ونعمائه.(1)
والصلاة والسلام على من غرس العدل و وزرع بذور الحق والإنصاف, فأنار للإنسانية المستعبدة طريق العزة والكرامة فأنقذها من براثن الظلم والطغيان, والاستبداد الجاثم على كاهلها.
وبعد :
منذ غلبة العقل على الغريزة مع تطور الحضارة البشرية وتحولها من شريعة الغاب إلى شريعة الحق، نشأت الحاجة إلى القضاء.
فعندما يكون الحق للقوة يتكفل القوي من نفسه وبذاته من أن يمنع اعتداء من هو أضعف منه عليه، أو بأن يأخذ منه حق- مسألة الثأر- فيصبح هو المعتدي بعد أن كان هو الضحية.
لهذا كان لابد للفرد أن يدرك شيئا فشيئا بأن قوة الجماعة هي الأقوى حتما ودائما، وأن من مصلحته الفردية أن يخضع لقوة وأوامر الجماعة بمقابل أن تتولى الجماعة حمايته من كل اعتداء على شخصه أو تجاوز على حقوقه.
من هنا قدر الاسلام فيما قدر، أن العدل نفسه مفهوم اجتماعي كالحق لابد لنفاذها من إقامة سلطة يتمتع الناس داخل نطاقها بالحق والعدل. [1]
فالقضاء هو منصب الفصل بين الناس في الخصومات، حسما للتداعي وقطعا للتنازع، بالأحكام الشرعية المستقاة من الكتاب والسنة. [2]
من هذا التعريف الموجز تتجلى أهمية القضاء النابعة من كونها تعالج أخطر أمور الناس كالدماء والأموال والمناكحات .... ومن كونها تصنف في المرتبة التالية للخلافة، بل القاضي نائب عن الخليفة وشريك له في سلطانه، وهذا المجال الفسيح يتيح للقاضي معالجة غالبية النوازل والمستجدات. [3]
كما تتجلى أهميته في القانون المغربي في كونه يحقق أبرز خصائص القاعدة القانونية وهي صفة الإلزام، وأنه ذلك الجهاز القضائي المدعم بالسلطة العامة التي تملك جبر المتقاضين على الامتثال لحكم القانون ما دام القانون يعبر عن إرادة الأمة، وبالتالي فإنه يحمل في طياته الحق والعدل. [4]
هذه المبادئ التي أقرها الإسلام منذ 14 قرنا، أي منذ عهد الرسالة السامية التي حمل مشعلها رسول الإنسانية محمد بن عبد الله – صلوات الله عليه -، فترك للمسلمين حرية الاختيار في وسائل التطبيق ليختاروا في مختلف العصور والأوضاع والأحوال الطرق الكفيلة بتحقيق تلك المبادئ.
فمنذ فجر الإسلام والمسلمون لم يعرفوا في عهد الرسول قاضيا سواه، فقد كان رائد المسلمين في دينهم ودنياهم، يبلغهم بما أنزل الله عليه من هدى ورشد ويحكم بينهم، تنفيذا لقول الله تعالى:" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله "، إذ الأمة إذ ذاك على بساطتها منصرفة إلى تشبثها بمبادئ الحق والإنصاف، متمسكة بعنان الرشد والهداية، بعيدة عن الشغب والمراوغات. [5]
وما قد يحدث بين أفرادها من نزاع يفرضه تعايش المجموعة البشرية يحكم الرسول عليه السلام فيه بما ينزله الله عليه من الوحي فيتقبله الناس بغاية الإذعان والقبول، على أن بساطة الحياة وحب الإنصاف والانقياد إلى الحق في أول الأمر جعل وظيفة القضاء مهمة يسيرة مارسها الرسول (ص) إلى جانب الرسالة المطوق بتبليغها، وبما أناب عنه في بعض الأحيان كبار الصحابة.
فكان الحق يجري مجراه، والعدل يبدو في أبهى مظاهره، والقضايا التي تستغرق الشهور والسنوات في عصرن، يتم الحكم فيها في برهة يسيرة من الزمان.
إلى أن اتسعت دائرة الفتوح ودخل الناس تحت حكم الإسلام على تباين أجناسهم وتخالف عوائدهم وأعرافهم، فأصبحت القضايا والجزئيات تلتوي وتتشعب وأخذ القضاء يتطور ويظهر بحلة أخرى جديدة، فكان ذلك مما دعا الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إلى فصل القضاء عن الخلافة قائلا لما تراكمت عليه الأشغال: لو روحت عني بعض الأمر، أي فصلت القضاء عن وظيفتي ودفعته لغيري. [6]
فسن لهؤلاء القضاة مسطرة يسيرون على هديها في الأحكام، فوجه إليهم تلك الرسالة الخالدة التي تعتبر في الفقه الإسلامي المصدر الأول لعلم المرافعات، تلك الرسالة النظامية التي ما تزال حتى الآن تشع بأنوارها على محاكمنا ويستنير قضاتنا بهديها:
"بسم الله الرحمان الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس سلام عليك
أما بعد: فالقضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلى إليك واقض إذا فهمت، وامض إذا قضيت فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وأس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك،البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمي فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل، الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-، ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها واجعل للمدعي حقا غائبا أو بينة أمدا ينتهي إله فإن أحضر بينة أخذ بحقه وإلا وجهت القضاء عليه فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ للعذر، المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلودا في حد أو مجربا في شهادة زور أو ظنينا في ولاء أو قرابة، فإن الله تعالى تولى منكم السرائر ودرأ بالبينات والإيمان، وإياك والغضب والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومات، فإن القضاء عند مواطن الحق يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر، فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تخلق للناس بما ليس في قلبه شأنه الله، فإن الله لا يقبل من العباد إلا ما كان خالصا، فما ظنك بثواب من الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته والسلام". و مجربا في شهادة زور أو ضنينا في ولاء أو قرابة فإن الله تعالى تولى منكم السرائر ودرأ البينات والإيمان، وإياك والغضب والضجر والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومات فإن القضاء عندج مواطن
ولأهمية هذه الرسالة وكونها على قدم زمانها لم تزل طرية غضة في معانيها يتعين الإتيان بنصها، ولاسيما وفيها الرد على من يظن أن هذا المنهج القضائي الحاضر لا أصل له، وإنما هو من توليد وإحداث المتنطعين من الفقهاء، ثم تذييلها بتطبيق فصولها على المنهج المسلوك في التحاكم إلى الآن، إذ قد تضمنت هذه الرسالة كيفية ابتداء التحاكم وكيفية إجراء الدعوى حتى يتم الفصل بحكم بات. [7]
وقد وضع عمر بن الخطاب من خلال رسالته السامية أول خطوة لفصل القضاء عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، [8]فكان يستقل في حكمه ويسهر على تنفيذه بنفسه حتى دعت الضرورة لإنشاء محكمة المظالم، تلك المحكمة التي أنشأت على عهد عبد الملك بن مروان، وكان من مهامها قمع الظالم ونصر المظلوم والحكم على أرباب السلطة والجاه وأهل التعدي والولاة ورؤساء الجيش [9].
نستطيع من هذه النبذة التاريخية أن نجزم أن مباشرة النظر في القضايا والفصل فيها كانت مستندة للقضاء، كما أنهم هم الذين ينفذون أحكامهم حينما كان الناس لا يجدون في أنفسهم مما قضى به الشرع ويسلمون لحكمه تسليما ممتثلين لقول الله تعالى:" فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينه ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما".
أما المغاربة فقد دأبوا منذ دخل الإسلام ديارهم وأفهم الإيمان قلوبهم، مسلمين في عقائدهم مسلمين في معاملاتهم مسلمين في سلوكهم اليومي، لا يرون الصواب والهدي إلا فيما أمر به الدين الإسلامي، ولا يرون الشر والخطأ والظلال إلا فيما نهى عنه.
ولذلك استمروا طيلة ثلاثة عشر قرنا قبل التدخل الأجنبي في البلاد يسيرون على نظام ألفوه، ومبادئ قارة اعتنقوها جيلا عن جيل منذ عهد الرسول محمد (ص) إلى أن بلغت إليهم – الشريعة الإسلامية- وهي في خلودها وصمودها عبر قرون تحفظ عزهم ومجدهم وترعى تطورهم في الحياة ورقيهم وازدهار حضارتهم وسمو كيانهم.
على ضوء هديها يسيرون وعلى نهجها يستقيمون ومن أحكامها يستمدون الحلول لمشاكلهم، ومن صور هداتها يصنعون سلوكهم ويطيعون حياتهم.
وكان في طليعة الأركان الإسلامية التي بنو عليها كيانهم منذ عهد الأدارسة الفاتحين إلى الدولة العلوية، وهو العدل. [10]
ولما حالت الأحوال وفشا الاستبداد امتدت يد المستعمر الفرنسي إلى التهجم على البلاد والتدخل في الحكم وشؤون القضاء، فأحدث بذلك قضاء جديدا عرف خلال عهد الحماية بالقضاء المخزني أو المحاكم المخزنية التي كانت عبارة عن مجلس يعقده الباشا أو القائد أو أحد خلفائهما للفصل في الدعاوى وإصدار الأحكام.
وبهذه الخطوة اندثر مبدأ فصل السلط بكيفية رسمية وأصبح القضاء تحت رحمة السلطة التنفيذية تباشره بكيفية لم يعرفها تاريخ المغرب الإسلامي منذ فجر الإسلام، وأصبح القواد والبشوات الذين كانوا مجرد منفذين لأوامر المراقبين والمندوبين الفرنسيين، يحكمون في القضايا المدنية والتجارية والجنائية ويتولون تنفيذ تلك الأحكام بأنفسهم.
ونتج عن هذا الوضع الشاذ إخلال بمبدأ العدالة وضياع لحقوق الناس، ووجدها المعمرون الفرنسيون وأرباب السلطة والجاه وسيلة للاستغلال والسلب والنهب.
وكان هذا النظام التعسفي من العوامل القوية التي أذكت روح المقاومة في سائر المواطنين المغاربة، وجعلتهم يقفون صفا واخدا ضد الظلم وضد القوى الاستعمارية.
هذه المقاومة التي رأت الحماية الفرنسية من خلالها أن تذر الرماد في العيون لتدعي الإصلاح في ميدان القضاء بفصل السلط، فاستصدرت ظهير 12 ذي الحجة 1363 موافق نونبر 1944، تأسست بمقتضاه محاكم ابتدائية في سبع مدن مغربية أطلق عليها اسم محاكم المفوضين، وكان تأسيس هذه المحاكم محاولة صورية لفصل السلطات لأنها اقتصرت على عدة مدن مغربية لا تتجاوز أصابع اليد.
وبعد حصول المغرب على استقلاله وعودة المجاهد الأول محمد الخامس إلى عرشه ظافرا منتصرا أصبح همه الوحيد القضاء على هذا النظام، ولذلك لم يم على رجوعه لأرض الوطن إلا يومان حتى وقف في عيد عرشه يوم الجمعة 3 ربيع الثاني 1375ه/18 نوفمبر 1955م مخاطبا شعبه بقوله:" وستكون الخطوة الأولى بحول الله تأسيس حكومة عصرية مسؤولة تعبر تعبيرا عن إرادة الشعب سنقلدها مهمات في أن واحد:
1. مهمة تدبير شؤون البلاد.
2. مهمة وضع أنظمة ديمقراطية على أساس الانتخاب.
3. فصل السلط في إطار ملكية دستورية.
وأصدر بمناسبة تدشين الدورة القضائية لمحكمة الاستئناف العصرية الظهير الشريف الذي يعتبر بمثابة النظام الأساسي لرجال القضاء في 18 جمادى الثانية 1378ه/ 30 دجنبر 1958م، الذي كان له الأثر الحميد في تركيز العدالة بهذه البلاد وأمكن للقضاة أن يحصنوا استقلال قضائهم، مطمئنين على مصيرهم، غير مبالين بما قد يضعه رجال السلطة في طريقهم ما دامت حقوقهم مضمونة.
وأخيرا وباختصار شديد، كانت هذه هي أهم المراحل التاريخية التي مر بها القضاء المغربي منذ فجر الإسلام إلى يومنا هذا، فإن موضوع البحث يطرح العديد من التساؤلات، لعل أهمها ما يأتي:
§ هل القواعد والمبادئ التي وضعها المشرع المغربي لتنظيم القضاء وأوجب مراعاتها أمام المتقاضين تتماشى ومبادئ وأسس القضاء في الإسلام؟.
§ ما هي الطرق المعتمدة في تعيين رجال القضاء ما بين الأمس واليوم، أي بين القضاء الإسلامي والمغربي؟
§ إلى أي حد ساهم القضاء المغربي في ترسيخ الشروط والواجبات التي توقف عليها اختيار الأكفئ والأجدر من القضاة؟.
§ وأخيرا ما الحقوق التي كفلها الإسلام للقضاة واستلهمها القضاء المغربي؟.
وإذا كانت الإجابة على هذه التساؤلات تمثل موضوع البحث، فإن الهدف النهائي من بحثنا هذا يتمثل في الاستقراء على ضوء التحليل والمقارنة والاستنتاج.
وارتباطا بكل ما تقدم، وتحقيقا للمراد من البحث سوف نقسم دراستنا إلى فصلين كالتالي: