المجتمـع المــدني
هـوية الاختـلاف
المجتمع المدني هوية الاختلاف
جاد الكريم الجباعي
الناشر: ترقا للطباعة والنشر والتوزيع
دير الزور، هاتف 051220062
دمشق ـ ص.ب: 2582 . تيلفاكس 6719288
E.Mail: jebaae@scs-net.org.
الطبعة الأولى: 2003
موافقة وزارة الإعلام
رقم /74825 / تاريخ /19 7/ /2003
جميع الحقوق محفوظة
الأعمال الفنية وتصميم الغلاف
خزامى الجباعي
مطبعة اليازجي
دمشق هـ: 2311279
مدخـــل
تتعارض أي مقاربة جدية لمفهوم المجتمع المدني الذي يقوم على مقاصد بشرية محضة وعلى مبادئ اجتماعية خالصة، مع الوعي الأيديولوجي بوجه عام، ومع الأيديولوجيات والأنساق المغلقة: المذهبية والأقوامية والطبقوية، بوجه خاص؛ الأيديولوجيات التي تشتق الواقع من الفكر، وتجعل منه وجوداً جوهرياً سامياً يتعالى على التاريخ وعلى سنن النمو والتطور. وتتعارض مع لغة "السياسة" التي كانت ولا تزال أقرب إلى المجاز أو "البيان"، وإلى سحر الكلام، ولا سيما حين تتحدث هذه اللغة عن "مجتمع عربي" أو عن "مجتمع عربي اشتراكي موحد"، وعن "شعب عربي" في عدة دول، وعن أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، أو عن أمة إسلامية، أو عن أممية بروليتارية، من دون أن تقيم أي حد مفهومي بين المجتمع والشعب والأمة والدولة، أو بين الدين والفكر والأخلاق والسياسة؛ إذ يأنف الخطاب القومي التقليدي والرومانسي خاصة من الحديث عن مجتمعات عربية أو شعوب عربية، ويرفض الاعتراف بالواقع القائم والوقائع العنيدة، فينطلق من الهدف الذي هو الوحدة العربية أو الدولة الإسلامية أو المجتمع الاشتراكي إلى الواقع الذي يبدو شاحباً وهزيلاً ووضيعاً إذا ما قيس بسطوع الهدف وسموه. ذلك لأن مفهوم المجتمع المدني يحيل على فضاء من الحرية، في الفكر والعمل، يعري هذه الأيديولوجيات، ويكشف عن خوائها ومفارقاتها حين يعارضها بالواقع الذي تتحاشاه، وبالوقائع التي لا تعترف بها. ولا ينبغي التقليل من أهمية هذه المشكلة، مشكلة التعارض بين الرؤى والأهداف الذاتية والحقائق الواقعية، سواء في جانبها النظري، أو في جانبها السياسي، أو في جانبها الدستوري والقانوني، إذ ارتبط مفهوم المجتمع المدني تاريخياً بمفهوم الأمة وبمفهوم الدولة القومية؛ فلا يكفي أن نصف لغة السياسة، أو الخطاب السياسي القومي بالتقليدوية أو الرومانسية فنحل المشكلة التي نجمت في الواقع عن التجزئة القومية الحديثة التي كانت ولا تزال تعبيراً عن اتجاهات الرأسمالية وتناقضاتها، وعن نمو العنصر الإمبريالي طرداً مع توسع الرأسمالية على الصعيد العالمي؛ في حين لا يعدو هذا الخطاب كونه خلاصة موضوعية ونتيجة منطقية للأوضاع العربية والإقليمية والدولية التي شكلت الوعي الاجتماعي بوجه عام والوعي السياسي بوجه خاص. ولكم كان ياسين الحافظ محقاً حين عرف التجزئة القومية الحديثة بأنها "محصلة الأوضاع الإمبريالية والتأخر التاريخي" للأمة العربية [1].
فهل يسوغ استعمال مفهوم المجتمع المدني على الصعيد "القطري" الذي عينته الأوضاع الإمبريالية والتأخر التاريخي، أم ترانا مضطرين للمجازفة باستعماله معادلاً موضوعياً لمفهوم الأمة وأساساً لمفهوم الدولة القومية، بالمعنى المستقر في الخطاب العربي المعاصر، وهذه وتلك لا تزالان في دائرة الممكن والمحتمل؟ وهل بوسع بومة منيرفا أن تطير إلا في الظلام؟
جميع الذين تحدثوا عن "التباس مفهوم المجتمع المدني" وعن الصعوبات المعرفية التي يطرحها على الذهن العربي، لم يتطرقوا إلى هذه المشكلة التي ستظل تلوب ونلوب معها بحثاً عن حل ممكن أو محتمل. وربما كان على القارئ أن يبذل جهداً إضافياً لتسقط الآثار السلبية لعجز الكاتب عن حل هذا الإشكال ذي الأهمية الاستثنائية. وإذا كنت قد اقترحت مفهوم الدولة الوطنية [2] صيغةَ توسطٍ جدلي بين الدولة القطرية المرسملة والتابعة القائمة بالفعل والدولة القومية الممكنة التي لا نجرؤ على وصفها بعد بأي صفة، فإن هذا الاقتراح أو الافتراض النظري قد يكون نوعاً من محايلات العقل، أو نوعاً مخففاً من "هذيان الهدف" وتطلُّب الرغبة التي كانت تؤثِّم فكرة المجتمعات العربية والشعوب العربية، ولا ترى في الدولة القطرية القائمة بالفعل سوى انحراف تاريخي وعرض زائل عما قريب.
حقاً إن أوضاع الدول العربية القائمة تنتج مفاهيم مثيرة للجدل في مجال دراسة المجتمع المدني والدولة وحكم القانون، لا مع الفكر القومي التقليدي والرومانسي فحسب، بل مع الفكر التيولوجي الدوغمائي أساساً. فقد كانت محاولات تعرُّف الواقع العربي وتلمُّس ممكناته واتجاهات تطوره محكومة بثوابت أيديولوجية، أقوامية وإسلامية واشتراكية دوغمائية، سوى استثناءات نادرة لا تزال على هامش الفكر السياسي العربي. ولا يزال الخطاب السياسي مقيداً بهذه الثوابت، ويعيد إنتاجها، ويشيح عن أي محاولة لنقدها، إن لم يرمها بالكفر والمروق والخيانة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الحقل الدلالي الذي ينتمي إليه مفهوم المجتمع المدني يتعارض على طول الخط مع الحقل التيولوجي والدوغمائي، سواء كان هذا الأخير أقوامياً أو اشتراكياً أو إسلامياً أو علموياً.
تنطلق هذه المقاربة من افتراض علاقة ضرورية، منطقية وتاريخية، أي واقعية، بين الأمة والمجتمع المدني والدولة الوطنية، ومن النظر إلى القومية على أنها فضاء ثقافي أو حضاري مشترك بين جميع قوى الأمة وتمثيلاتها، وصفة للدولة المعنية منظوراً إليها من الخارج، أي من غير مواطنيها؛ ومن ثم فإن مفهوم المجتمع تعبير سوسيولوجي، ومفهوم الأمة تعبير ثقافي، ومفهوم الشعب تعبير سياسي عن حقيقة واحدة هي الدولة الوطنية؛ وهذه الأخيرة أي الدولة الوطنية، لا تبدو لمواطنيها إلا في صيغة النظام العام والمصلحة العامة والإرادة العامة، أي في صيغة دولة حق وقانون لجميع مواطنيها بلا استثناء ولا تمييز. وما كان للقومية أو الوطنية أن تكون صفة للدولة لولا عنصر العمومية في الصفة والموصوف؛ والصفة في العربية تابعة للموصوف في جميع أحواله؛ القومية أو الوطنية صفتان تابعتان لموصوف هو الدولة، أما في الفكر السياسي العربي بوجه عام وفي الفكر القومي بوجه خاص فإن الصفة، الوطنية أو القومية، أكلت الموصوف حتى لا نكاد نلمح له أثراً، ولذلك اكتسى مفهوم الوطنية أو القومية طابعاً قيمياً خالصاً. فإذا كانت الدولة تعبيراً عن الكلية الاجتماعية أو المجتمعية، بكل ما تنطوي عليه هذه الكلية من تنوع واختلاف وتعارض، فإن الوطنية أو القومية التي نصف بها الدولة هي صفة هذه الكلية، بغض النظر عن الفروق الإثنية واللغوية والثقافية والدينية والمذهبية والطبقية وما إليها. ومن ثم فإنه لا بد من إقامة حد معرفي ومفهومي وتاريخي بين الإثنية والقومية الحديثة. ولمزيد من الإيضاح يجب أن نعترف أن الأمة الحديثة، وشكلها السياسي، الدولة الوطنية، ينطويان معاً على تنوع إثني ولغوي وثفافي وديني ومذهبي وطبقي، ومن ثم فإن إخراج أي عنصر من هذه العناصر من دائرة الأمة والوطنية أي القومية، هو إخراجه من دائرة الدولة. ولعلنا لا نجد اليوم دولة نقية عرقياً أو ديناً أو مذهبياً أو ثقافياً أو لغوياً. إن عنصري التحديد الأساسيين في هذه الرؤية هما المجتمع المدني، بوصفه التجسيد العياني للأمة، والدولة الوطنية أو القومية (ولا فرق) بوصفها شكلاً سياسياً للوجود الاجتماعي وتحديداً ذاتياً للشعب. وإذا سأل سائل: والوحدة العربية؟ نجيب: إننا لا نستطيع أن ننظر إلى الوحدة العربية اليوم إلا بوصفها تعبيراً عن الإرادة العامة والمصلحة العامة لشعوب العالم العربي أو الوطن العربي، (والصفة هنا على وجه التغليب، لا على وجه التمييز)، لا تعبيراً عن إرادة "الأحزاب القومية". وقضية فلسطين قضية تابعة لقضية الوحدة العربية. وذلك لأننا نعتقد أن التعارض الرئيس في كل "دولة" عربية على حدة هو التعارض بين جزئية الدولة وحصريتها وبين كلية المجتمع الذي ليس له بعد من حضور يذكر، لا في الفكر السياسي العربي ولا في "الدول" القائمة.
من زاوية علم الاجتماع الخالص، يمكن الحديث عن مجتمعات في دولة واحدة، كالمجتمعات البدوية والمجتمعات الريفية ومجتمعات المدن .. إلخ، ولكن لا يمكن الحديث عن شعوب في دولة واحدة. فما أن نتحدث عن شعب وشعوب حتى نغادر علم الاجتماع الخالص إلى علم الاجتماع السياسي، وإلى علم السياسة، ونغادر من ثم مستوى الوجود الاجتماعي المباشر إلى أحد أشكاله أو تشكلاته الثقافية والسياسية، أي إلى الوجود الاجتماعي الموسَّط. كما أن الحديث عن شعب واحد في دولتين، أو في عدة دول، يضمر عدم الاعتراف بإحدى هاتين الدولتين، أو بهما، وبتلك الدول. وتلكم هي إشكالية "القومي والقطري" في الفكر السياسي العربي المعاصر، الإشكالية التي لم تجد لها حلاً حتى يومنا، وقد نجم عنها موقف وجداني أو شعوري قوامه رفض الدولة القائمة بالفعل، وعدم الثقة بها، ومن ثم عدم احترامها، والنظر إليها على أنها انحراف تاريخي وعرض زائل عما قريب، ومعارضتها بدولة ليست موجودة سوى في الذهن. القوموي يرفض الدولة القائمة ويعارضها بـ "الدولة القومية"، "دولة الأمة العربية" النقية، والإسلاموي يرفض الدولة القائمة ويعارضها بدولة إسلامية نقية، بحاكمية الله أو ولاية الفقيه، والاشتراكي يرفض الدولة القائمة ويعارضها بدولة اشتراكية، أو بدكتاتورية البروليتاريا وبالأممية البروليتارية. الغائب الأكبر في الفكر السياسي العربي هو الواقع العياني؛ لذلك لم يعن الفكر السياسي العربي المعاصر بمسألة الدولة ومسائلها عناية جدية، ومن البديهي وهذه الحال ألا يعنى بمسألة المجتمع ومسائله، ولا سيما بمسألة المجتمع المدني وما ينتمي إليها ويتعلق بها من مسائل كالإنسية والعقلانية والعلمانية والديمقراطية.
واللافت للنظر أن الفكر السياسي العربي، كالوعي العفوي، لا يأسف على هذه الدولة القائمة بالفعل إذا ما فسدت وانحطت أو تعرضت لهزيمة، أو إذا ما انهارت، كما حدث في العراق، بل تتعزز حجته عليها، ويسارع إلى وصفها بأنها "دولة النخبة" و" دولة ضد الأمة" [3]. ومن الظواهر المهمة في العالم العربي أن الحرية لا توجد ولا تنمو إلا بالتضاد مع الدولة، وخارجها [4]، وبالتضاد مع المجتمع المدني بالضرورة.
سأترك المسألة معلقة بانتظار ما سيأتي به البحث من مقاربات علم الاجتماع وعلم الاجتماع السياسي أوعلم السياسة وعلم القانون الدستوري وعلم الاقتصاد السياسي، فضلاً عن مقاربات الفلسفة أو الفكر النظري لمفهوم المجتمع المدني وتتمته المنطقية، الدولة الوطنية / القومية. على أن قابلية الدولة القطرية القائمة بالفعل للاندماج في "نظام إقليمي" فرعي، متوسطي أو شرق أوسطي يضع إمكانية اندماجها في سوق عربية مشتركة تفضي إلى شكل سياسي ما على غرار الولايات المتحدة الأمريكية أو على غرار الوحدة الأوربية. لكن ما أكدته تجربة القرن الماضي أن الوحدة القومية ليست فعلاً من أفعال الإرادة السياسية فحسب، وضرورتها لا تنبع من "التحديات الخارجية" فقط، بل هي فعل مجتمعي يعبر عن اتجاه سير المجتمع وعن خياراته الاجتماعية واالاقتصادية والسياسية المحمولة على تطور عملية أو عمليات الإنتاج الاجتماعي، بكل ما تنطوي عليه هذه العملية من معان ودلالات. وهذا مشروط بانتقال مركز ثقل العالم العربي من الخارج إلى الداخل، وصيرورة العمل السياسي العربي انشغالاً بالواقع واشتغالاً فيه، لا ردود فعل شعورية على "التحديات الخارجية".
إذا كان الفلاسفة وعلماء الاجتماع السياسي متفقين على ما بات يسمى "نظرية العقد الاجتماعي" أساساً لنشوء المجتمع المدني والدولة القومية الحديثة، فإن علماء القانون الدستوري يرون في الدستور تجسيداً لفكرة العقد الاجتماعي؛ فـ "نص الدستور هو خلاصة لإثبات حقوق المواطنين ولطرق ممارسة السلطة بوساطتهم أو بوساطة ممثليهم". الدستور هو القانون الأسمى في تنظيم المجتمع، يحدد أسس الدولة ومبادئها وحدودها. ومبادئ الدستور تتضمن دراسة للظواهر السياسية وللنظام السياسي لأي مجتمع [5]. هذا المدخل القانوني لا يقل أهمية عن المدخل السوسيولوجي أو عن المدخل الاقتصادي أو غيرهما من المداخل الممكنة، ولكن أياً من هذه المداخل يظل قاصراً وحده عن الإحاطة بجميع جوانب المسألة. لأن لكل منها منطقاً خاصاً هو بالأحرى فرع من منطق الجملة الكلية، أو الكلية العينية التي هي الواقع الفعلي، ولعل الديالكتيك أو المنهج الجدلي الذي ينصف جميع هذه المداخل ويختبرها في نار الممارسة الحية هو منطق الواقع ومنطق التاريخ. ومن حق البحث أن يفيد من جميع هذه المداخل؛ من دون أن يغفل عن طابعها الوضعاني، "فقد أدت النزعة الوضعية الضيقة للحقوقيين (ولغير الحقوقين) إلى دراسة الظواهر السياسية حول الدولة وقواعد القانون وإغفال أو إنكار كل الجوانب الأخرى التي تركت لعلماء الاجتماع والفلاسفة. بيد أن هذا المفهوم سرعان ما اكتشف نقائصه، وخاصة عندما لم تعد الدولة التي يتحدث عنها الحقوقيون تتناسب مع واقعها الفعلي داخل المجتمع. وتجدر الإشارة إلى أن النظريات الدستورية الكبرى قد وضعت قبل أزمة 1929 التي أفضت تداعياتها إلى الحرب العالمية الثانية، وفرضت نتائجها، لا نسقاً جديداً من العلاقات الدولية فقط، بل نسقاً جديداً من العلاقات السياسية في كل دولة على حدة. وإذا كان العيش في وهم النظام الليبرالي ممكناً قبل الحرب العالمية الأولى فقد بات مستحيلاً بعد الثلاثينات تجاهل الحقيقة باسم الحديث النظري". فثمة داخل الدولة أحزاب ونقابات وجماعات ضاغطة، وغدت دراسة وسائل الاتصال وسبر الرأي العام ضرورية لفهم الانتخابات والتخطيط السياسي؛ فتحت القانون هناك الواقع. وقد يكون نظام الأحزاب هو السائد داخل "اللعبة السياسية" الدستورية، ولكن الكلمة الأخيرة هي للبنية الاجتماعية التي تنظم ترابط الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والسياسي، وهي هنا والآن للمجتمع المدني الذي تتمايز فيه هذه المجالات وتتجادل. وصار الأمر أكثر وضوحاً بعد تجارب الدول حديثة الاستقلال التي يدل إخفاقها على الهوة القائمة بين القانون الدستوري والواقع السياسي [6]، فإذا كان القانون محصلة نهائية لفاعلية المجتمع المعني، أو تجريداً للبنية الاجتماعية المتعينة في المكان والزمان، في كليتها وشمولها، فلا بد له أن يتسق مع الواقع السياسي الحي والمتغير الذي لا يقتضي المواءمة المستمرة بين القانون والواقع فحسب بل يقتضي تعديل أليات عمل السلطة السياسية وتطويرها باستمرار.
يتنازع علم السياسة اليوم اتجاهان أساسيان: يرى فيه أحدهما وسيلة لمعرفة الدولة، بما هي جملة كلية أو وحدة عينية من الأرض والشعب والسلطة السياسية أو النظام العام، ويرى فيه الآخر علماً للسلطة ووسيلة لدراسة آليات عملها بوصفها إدارة عامة. فالدولة، بحسب الاتجاه الثاني، لم تعد تحتكر ممارسة السلطة؛ إذ ينتج المجتمع تنظيمات تحتية في إطار الدولة تولِّد ظواهر سلطة، وتولد من ثم رؤية جديدة لماهية الدولة التي يغدو من الصعب فهمها من دون معرفة تنظيماتها. هذا الاتجاه الثاني الذي أسس له ميشيل فوكو بتوسيع مفهوم السلطة، يرى أن السلطة ليست بنية ولا مؤسسة، وليست ممارسة لقدرة ما منحت للبعض، بل هي "الاسم المستعار لوضع استراتيجي معقد داخل مجتمع معين .. إن السلطة موجودة في كل مكان، وهذا لا يعني أنها تبتلع كل شيء، بل يعني أنها تأتي من كل شيء. ففي اللحظة التي يُفكر فيها في السلطة على طريقة الحقوقيين نصل إلى تفجير حقيقي ينطلق من نقطة مركزية (الدستور أو الحكومة) ليمتد داخل قنوات عدة في جسم المجتمع (الإدارة / الإدارات الخاصة) [7]. السلطة، بل السلطات التي تنبع من النشاط الاجتماعي (من الفاعلية أو الحركة التي تولد مختلف القوى)، اقتصادياً كان هذا النشاط أم ثقافياً أم مهنياً أم نقابياً أم سياسياً .. تدل محصلتها النهائية على قوة المجتمع التي ينبغي أن تعين حدود السلطة السياسية، وتعين من ثم الحدود بين سيادة الدولة التي لا تتجزأ، وبين سلطاتها المرتبطة بوظائفها الاجتماعية المختلفة والنابعة من حاجات المجتمع وإيقاع سيره؛ إذ لا يجوز أن تكون السلطة السياسية شيئاً مستقلاً عن الوظائف الاجتماعية، سواء تلك التي يقوم بها المجتمع بنفسه، أو التي يقوم بها عن طريق الدولة، أي عن طريق مندوبيه ومفوضيه وموظفيه.
ولعل رؤية فوكو أقرب إلى مفهوم المجتمع المدني حين نضعها تحت مقولة الديالكتيك، أي جدل الخاص والعام. فالسلطة تنبع حقاً من كل شيء؛ من سلطة الأب إلى سلطة الكاهن إلى سلطة الحاكم، من سلطة القوة إلى سلطة المعرفة إلى سلطة المال وسلطة الملكية الخاصة، ومن سلطة المؤسسات والتنظيمات الاجتماعية على أعضائها إلى سلطة العرف والعادة والتقليد .. وهكذا إلى بقية السلطات التي تنبع من كل شيء. ولكن جميع هذه السلطات مجتمعة أو مأخوذة كلاً على حدة ليست بعد سلطة سياسية، وجمعها الحسابي لا يؤلف دولة سياسية أو سلطة دولة. وبالمقابل فإن جميع البنى والتنظيمات المجتمعية التي تتوفر على قوة السلطة ليست بعد مجتمعاً مدنياً؛ لأن النظام الذي تعمل بموجبه أيٌّ من هذه السلطات ليس نظاماً عاماً. فالمجتمع المدني والدولة السياسية في أحد أهم معانيهما انتقال من الخاص إلى العام الذي ليس له من وجود فعلي إلا في الخاص، انتقال من الجزئية إلى الكلية التي لا تتعين واقعياً إلا في الأجزاء. المجتمع المدني كالدولة السياسية كلاهما تجريد العمومية؛ وبهذا المعنى نتحدث عن القانون بصفته العامة والمجردة، ونرى فيه ماهية النظام العام وماهية الدولة السياسية. وفي ضوء هذا التصور أيضاً نحاول إعادة تعريف السياسة على أنها الشأن العام أو الشيء العام المشترك بين جميع المواطنين وجميع الفئات الاجتماعية والذي تنعقد عليه الوحدة الوطنية؛ فوحدة أي شعب هي وحدة مجاله السياسي الذي ليس اقتصاداً مكثفاً فحسب، بل اجتماعاً مكثفاً وثقافة مكثفة وأخلاقاً مكثفة بالضرورة.
إن أحد أهم الأسباب التي أدت إلى إخفاق الدول حديثة الاستقلال، وإلى إخقاق الحداثة في مجتمعاتها المتأخرة، يكمن في صعوبة الانتقال من الجزئية إلى الكلية، ومن العرف إلى القانون، أي من الجماعات المغلقة والمتحاجزة إلى المجتمع المدني، ومن الملة إلى الأمة. وأبرز تظاهرات تأخر هذه المجتمعات هو تشظي المجال السياسي لكل منها، وتشظي مجالها السيادي. ذلكم هو الواقع الذي يقبع تحت القانون الصوري، غير المعمول به في الواقع، والذي لا يتوفر بعد على القوة التي يتوفر عليها العرف والعادة والتقليد، فضلاً عن التعارضات الاجتماعية وما تولده من استقطابات وتنظيمات. لنقل إن الفارق النوعي بين "المجتمع الأهلي" والمجتمع المدني يكمن هنا، ويمكن أن نلخصه بالفارق النوعي بين العرف والقانون، وبين الجزئية المباشرة والكلية العينية. ففي المجتمعات المتأخرة ليس بوسعك أن تعاين سوى عائلات ممتدة وعشائر ومذاهب وطوائف وملل ونحل، وجماعات إثنية وأحزاب سياسية تلبست أسوأ صفات هذه البنى، وتنظيمات دولتية "حديثة" تشير إلى طابع "الحداثة" المحققة بالفعل، وهي حداثة قشرية هشة ومثلومة، على كل صعيد، ولا سيما على صعيد العمل والإنتاج الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية التي يفترض أنه يحددها وأنها تحدده.
[5] - ميشال مياي، دولة القانون، مقدمة في نقد القانون الدستوري، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، والمؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، لبنان، ط 2، 1982، ص 8 و 9
[7] - عن ميشال ميال، مصدر سابق، ص 12