كنّا نمارس كلّ شيء باعتدال.. لم يكن الجموح يحلّ ثالثنا، ولا مشاعرنا كانت تأتي بالقدر الكافي للتمرّد.. ثمّ وفجأةً، قرّرتُ التمرّد.. وأشعلتُ تقاسيم الدهشة في جبينها، وألبستُ أُذنيها أقراط السؤال، فكان الاستفهام يتداعى من شفتيها كثورة، أو كعطرٍ بالغ الإلحاح..
كانت تدغدغ الصمت بسؤال يُفسد حميمية المكان.. دون رغبة منها في بسطه، كانت تحاول عبثاً التغاضي، والاحتفاء بقدسية اللحظة..
يُتاحُ لنا عادةً القليل من المكان والزمان لنستنشق قدراً كافياً من النشوة.. لنحظى بتلك النشوة علينا بالتواطؤ والتغاضي وإرجاء بعض الاستفهامات والتساؤلات، والإغفال عن الواقع والاستسلام للحلم..
اليوم، الثلاثاء. الساعة، التاسعة صباحاً. المكان، زقاق ضيّق بشارع الهواء العليل (بيل آر..)
كان كلّ شيء مندفعاً نحو الموعد، لم يكن الموعد ذاك مجرّد زمكان، بل كان كومةً هائلة من التجاذبات، أو كقوى مغناطيسيةٍ كانت (تشحطنا شحطاً) إلى ذلك الزمكان..
وبينما أنا في طريقي إلى الزقاق يرنّ هاتفي الخلوي، أُجيب. أوّل ما يقع في أذني طقطقة كعبها السريعة (التامبو). لابدّ أنّها تستعجل الوصول.. أرغبةً في احتضاني كانت تسير مسرعةً؟ بل كانت تسرع رغبةً منها في خلع الشارع أين تسكن.
لقد كانت تخلع الشارع تلو الآخر، والزقاق تلو الآخر، تطوي كلّ أزقّة المدينة وتضعها جانباً حتى يتّسع المكان لذلك الزقاق أين موعد اللقاء..
أوائل تشرين، زخّات مطر خريفي دافئ جعلت الأرصفة تتأنّق لواطئيها، أمّا طريق الزقاق المزفّت فصار لزجاً جرّاء امتزاج رذاذ المطر ببقع زيت السيارات..
لفحات البرد الأولى للخريف تحلُّ على أبدان العاشقين مثل قبلة الحبّ الأولى، تصيبنا الرعشة لداها ويصيبنا الحنين في كلّ مرّة تمسح أكفّها على ذاكرتنا، فتجتثّنا إلى تلك اللحظة، لحظة لامست شفاه القدر خدّ المحال..
الزقاق هادئ إلاّ من صوت السيارات الذي انسلّ إليه من الشارع الرئيسي. الفيلات تصطفّ على طرفيه في عجرفة باعثة على الطمأنينة.. كأطلال لا تبوح إلاّ بالماضي، لم تكن تبوح بغير كبرِ أهليها في غير اكتراثٍ لمن وما يجول في الجوار..
مكالمةٌ أُخرى، هذه المرّة هي من تتّصل. يبدو صوتها أكثر امتلاءاً، أبعد من ذي قبل عن الحلم، أكثر دنواً من الواقع وقد تباطأ وقع خطاها في استسلام إلى رعشة الالتقاء..
أراها تدنو من حيث أنا، تُلوكُ أصابعُها أكمامَ سترتها الرمادية خيفة البرد، أو رغبةً في التمسّك باللحظة.. خصلات شعرها المموّج تُسدِل على جبينها حبيبات الإيناع كثمرة نديّة وخدش على ظاهر كفّها يُنبئ بنضارةٍ متناهية..
ابتسامةٌ نصف مكتملة مملوءة بالحيرة، مترنّحة بين الخوف والنشوة تُطلقها شفتان معكوفتان في حُسن تُبديان رغبةً في الارتماء..
التقينا أخيراً. صار الزقاق أصمّ لا تُسمع فيه غير شهقاتنا. قد لبس كلّ منّا الآخر لباس الوحشة وذابت أضلعنا في طاس اللهفة أيّما ذوبان وسِرنا إلى الشوقِ نُطعمه من رغيف اللقاء ونُغدق عليه كلّ الإغداق..
غادرنا الزقاق وقد أحكمنا إقفاله لألاّ تدوسه غير أقدامنا، ولا تلوح في أُفقه غير أمانينا التي تركناها معلّقة إلى حين عودتنا..
سِرنا كعصفورين جميلين نذرّ على قحلِ المدينة أُنسنا، ونتلو على مسمعها تعاويذاً تُغني عن الرحيل ونُنزل من مُزُنِ حبّنا ما نسمنُ به عجفها، فيستقيم عودُ الودِّ بين أهلها وتمتلئ صدورهم لهفةً إلى الغرام..
كان الشارع المؤدّي إلى الحديقة العامّة مكتظّاً.. أَرْهطُ البشر تتدفّق إليه من كلّ نهجٍ عميق. لم يكن من يكترث لأمرنا، كلٌّ سابحٌ في غياهبه، لا يدري بأيّ أرضٍ يدبّ الخلاص..
كانت معالم غدٍ مفعمٍ بالتفاؤل تتجلّى في رؤيانا. غد مُثقل بالأماني، كعقدٍ ضاق بحَجَره النفيس، فاستسلم في خنوع لجاذبية القدر واستحال خيطاً زهيداً..
حسداً، لفظنا الرصيف إلى الطريق اللزج، مثلما لفظ الخيط أحجاره، واستكان لبؤسه اللعين فرمى بحبيبتي إلى وحشٍ من عجل وحديد يتكالب على جسدها الواهن...
تكالبوا جميعاً على جسدِ صغيرتي الواهن، واكترث المارّة أخيراً، - بعد ماذا؟- فحجّت جموع من البشر إلى المكان، واستفحل خبر حادثِ الترام في المدينة كوباء، ونُعيتْ حبيبتي إلى زقاق (بيل آر) فذرف الأخير لرحيلنا واستوقد وحشة إلى موطئنا وإلى عطر حبيبتي الذي لازال معشّقاً في ذاكرتي كما في أركان الزقاق..
بقلمي..